في سن الخامسة من عمري ذهبت مع أهلي إلى اليمن، كان والدي يعمل مدرسا وقد أوفدته المملكة العربية السعودية في إعارة إلى اليمن السعيد ليعمل في مدرسة تابعة لمدينة “ريدة” في شمال غرب البلاد. أخذني أبي في نهاية الثمانينات أنا وأختي الصغيرة وأمي لهذه البلدة الصحراوية الفقيرة لنسكن بيتا صخريا مجاورا للجبال والطرق الصحراوية.
كنت يوميا عندما أستيقظ صباحا أفتح نافذة غرفتي فتطالعني مناظر الجبال الشاهقة من على بعد وهي تخترق السحب في منظر مهيب، ومن حين لآخر كنت أرى على البعد الأعاصير المخروطية تمسح الصحراء التي تمتد حتى نهاية الأفق، وأيضا بين يوم وآخر كنت أرى جماعات مسلحة تذرع الصحراء في عربات نصف نقل في مناوشات كانت بداية لحرب أهلية اندلعت لاحقا في التسعينات، لدرجة أنهم عينوا على بيتنا (وعلى بيوت المدرسين المبعوثين الآخرين) حراسة مسلحة لفترة لحمايتنا من تلك الصراعات!
بداية الحكاية
أظن أن عشقي للصحراء ورحلات التجوال Hiking، وكذلك هواية التحديق في نجوء سماء الليل Stargazing، بدأت من اليمن، كانت مدرستي أيضا فوق جبل عال، نصعد إليها على الأقدام في دروب دائرية صاعدة للأعلى، وكان أبي قد رتب مع إحدى القبائل أن تصحبني إحدى فتياتهم إلى مدرستي صباحا وتأتي بي من هناك مساء، ويبدو أن تلك الفتاة لم تكن المهمة على هواها، ففي إحدى المرات تركتني في الجبل ومضت مع صاحباتها التي كانت تفضل الذهاب والإياب معهن بدلا مني، فوجدت نفسي في دروب الجبل تائها ولا أدري ما أفعل! وعندما تأخرت على موعد العودة هاتف أبي أصدقاءه من المدرسين المصريين الذين هرعوا لتفقد دروب الجبل حتى وجدني أحدهم وعاد بي إلى المنزل سالما.
وجدت نفسي في دروب الجبل تائها ولا أدري ما أفعل! وعندما تأخرت على موعد العودة هاتف أبي أصدقاءه من المدرسين المصريين الذين هرعوا لتفقد دروب الجبل
في اليمن بدأ أيضا عشقي للطعام، لأن مطبخهم شديد الثراء، كنت قد أدمنت في طفولتي الخبز اليمني، وخصوصا خبز “الملوح” الشهي الذي يدخل في عجينته مسحوق الحلبة فيعطيه طعما لا يمكن نسيانه، كذلك كانت ترد إلى مدينة ريدة أصناف الأسماك والجمبري الفاخرة، وحتى الآن تحتفظ ذاكرتي بطعم الجمبري ذي الحجم العملاق الذي لم أتناول مثله حتى هذه اللحظة في أي بلد زرتها، وكان حجمه ضخما لدرجة أن والدتي كانت تقوم بصناعة “كفتة” من لحمه الوفير.
الجراد المشوي
قمت أيضا في هذه السن بتجربة تناول “الجراد” المشوي الذي يأكله اليمنيون في مواسم خاصة باعتباره من المقبلات أو المشهيات. وأعتقد أن أول قهوة تناولتها في حياتي كانت في اليمن أيضا، وخصوصا مشروب قشر القهوة المحمص الذي كان شديد الجمال.
في اليمن دخلت المدرسة مبكرا، وانضممت للصف الأولى الابتدائي وأنا في الخامسة، وكان يجاورني في نفس التختة اثنان من أبناء القبائل اليمنية أحدهما في الخامسة عشرة من العمر والثاني في السادسة عشرة، يفوقاني طولا وضخامة لكنهما كانا يحباني ويحبان باقي الأولاد من أبناء الأساتذة المصريين.
في اليمن أيضا شاهدت لأول مرة “اليهود” اليمنيين، ولهم سمت خاص وعادات خاصة، كانوا يرتدون قبعات خاصة تنسدل من تحتها شعورهم في هيئة ضفائر طويلة ويسيرون في جماعات صغيرة ولا يسيرون فرادى أبدا.
حتى الآن تحتفظ ذاكرتي بطعم الجمبري ذي الحجم العملاق الذي لم أتناول مثله حتى هذه اللحظة في أي بلد زرتها، وكان حجمه ضخما لدرجة أن والدتي كانت تقوم بصناعة “كفتة” من لحمه الوفير
عناقيد حول الجبال
أحببت العمارة اليمنية للغاية، بنماذجها المميزة، وطريقة تزيين نوافذها وأبوابها بالجص الأبيض في أنماط فنية شديدة الجمال، حيث ترى البيوت والمساجد تلتف في عناقيد حول الجبال وهي تشكل وحدة بصرية متناغمة تعطي لهذا البلد القديم والجميل ثراءً وتميزا لا يزال يلمس روحي حتى هذه اللحظة بعد كل تلك العقود.
مقال جميل وراثد في تعريفنا ولاول مرة بفردات الحياة في هذا البلد الذي لم اقرأ عنه اي شيء جميل بداية من ذهاب قواتنا المسلحة للدفاع عنه في الستينات (حرب اليمن ) الي معارك الحوثيين فيه مع اليمنيين .ومع السعودية ..