حضر أحمد خالد توفيق مع المستشار الإعلامي لمكتبة الإسكندرية حسام عبد القادر قبلي بنصف ساعة. وصلت إلى مطعم المكتبة. منضدة طويلة يجلس على رأسها توفيق وعلى يمينه عبد القادر، وإلى اليمين واليسار عدد من محبات ومحبي توفيق، وقفت بجوار الباب أتأمل، العيون تلمع فرحة بعدم تصديق أنهم يرون معشوقهم رأي العين، بل يجلسون على بعد أشبار منه، ويستمعون إليه مباشرة، وهو يمسك بسيجارة، يضعها بين شفتيه، بعينين سارحتين في دخان لم ينفثه بعد، ثم ينفث الدخان، فتغيم نظرته داخل ذاته، أو تذهب بعيدًا عن هذا المكان آلاف الأميال.
بين الناس
شعرت أنه بين الناس بكل كيانه، سعيد بسعادتهم به، فخور بهذا الإنجاز الذي حققه، كتاباته التي شكلت عقولهم ووجدانهم، ومحبتهم غير المشروطة التي حصدها قلبه. وشعرت في الوقت نفسه أن هذا الإنسان غارق في وحدة نبيلة، لا يعرف آلامها ولا لذتها إلا من كان مثله، وهذه الثنائية بين الانخراط الكامل في الحياة ومع الناس وبين الانسلال الكامل منها ومنهم، كان لها أثر غير منكور على شخصه وكتاباته، فحيثما قرأت توفيق وجدت ثنائيات تتصارع.
ففي روايته “يوتوبيا”؛ نلاحظ تسميته لأهل المدينة الذين أصبحوا نوعا من الزومبي الجسدي والأخلاقي معًا بالأغيار، وهي كلمة لها جذور ثقافية واستخدامات عديدة بعضها مرعب، فهي كلمة عنصرية إقصائية تبرر الاستغلال والقتل، ودائمًا ما تستخدمها الأنظمة القمعية الدينية والسياسية. وفي الرواية مكانان أساسيان اختارهما الكاتب للمقارنة؛ الساحل الشمالي والمطرية، منطقة شديدي الثراء، ومنطقة الطبقة الشعبية.
شخصية مهمة في هذه الرواية هو جابر، وهو ليس مجرد فرد من الطبقة الوسطى، فهو ابن هذا العالم المتوحش، لكنه لا يزال يتمسك ببعض قيم الطبقة الوسطى، حتى إنه ينقذ البطل وصديقته جرمينال، لكنه يحاول اغتصاب جريمنال، ولا ينجح بينما ينجح الشاب في اغتصاب صفية أخت جابر ثم يقتل جابر، وهذه الأحداث علينا أن نقرأها كرموز للعلاقة بين الطبقة الثرية والطبقة الوسطى التي انهارت بضعفها أمام طبقة الأثرياء وبتبنيها بعض قيم تلك الطبقة رغم عدم قدرتها على تنفيذها؛ فجابر هنا ممثل لطبقة انتهت أو في طريقها إلى الزوال، وموته على يد ممثل طبقة الأثرياء هو نبوءة توفيق بذلك.
في روايات الديستوبيا التي يكتبها أحمد خالد توفيق هناك تضافر بين ما هو كوني أو طبيعي وما هو اجتماعي وسياسي وثقافي، بمعنى أنه يقدم رؤيته من خلال الدفع بكل هذه العناصر إلى الحافة التي تخلق الإثارة ومن ثم النبوءة المزلزلة التي يريد أن يرعب القارئ بها هي بالذات وليست بتفاصيل الحدوتة.
الهروب للمستقبل
قال لي خلال ندوة مختبر السرديات: “أنا بهرب للأمام إلى المستقبل لكي تكون هناك مصداقية، أهرب لعالم افتراضي سيحدث أو لا يحدث لكن يمنحني الفرصة لكي أقول ما أريده”.. فهدف أي أدب جاد أن نفهم الحاضر بشكل أعمق لكي نصنع مستقبلا أفضل؛ فالنظر إلى المستقبل والتنبؤ بما سيكونه ومحاولة دق ناقوس الخطر حتى لا تتحقق النبوءة، ليس مجرد حيلة بل واجب على الكاتب، وأحمد خالد توفيق من الكتاب الذين يدركون ما عليهم من مسئولية تجاه كتاباتهم وقرائهم، لذلك يحلل الحاضر وعينه على المستقبل.
بالتأكيد توفيق يستحق كل المحبة التي نالها، ويستحق لقب العراب، ويستحق أن يظل حتى الآن أكثر الكتاب مقروئية، ولست أنا أو غيري من يحكم، فهو لم يعط لنفسه لقبا أو اهتماما بل أعطاه له من رأوا أنه يستحقه وليس من حق أحد أن يحتقر رأيهم أو يقلل منه.
قال في الندوة نفسها: “أكتب وأنا في ذهني الواقعية اللاتينية.. وستظهر أكثر في رواية السنجة، إذا كنت أحاول تصنيف أدبي ضمن مدرسة”.. لكننا إذا كنا نذكر بورخيس وماركيز ويوسا وخورخي أمادو من أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، فلست أعتقد أن توفيق معهم في السلة نفسها، لكنه يمكن أن يكون أقرب إلى إدجار آلان بو وستيفن كنج وجورج أورويل، على اختلاف كل منهم.
كتب توفيق السيناريو، وحاول تنفيذ سيناريوهاته ولم يوفق، وهذه مفارقة، فبعد وفاته نُفذت أعمال درامية عديدة عن أعماله، فلم يكن مقدرًا له تحقيق هذا الحلم بنفسه أو حتى رؤيته يتحقق. وتقنيات السينما تمنح العمل الروائي حيوية إذا استخدمت بذكاء، وهو ما كان يعرفه ويفعله في كتاباته.
قدم توفيق أعمالًا تستحق القراءة من أجيال مختلفة وعلى مستويات عدة، كما أنه فتح بابًا للكتابة في جنس أدبي لم يكن مطروقا بقوة في الأدب العربي، إلا ملامح في بعض الأعمال القليلة، والأهم إنه كمثل أعلى لجيل ساعد على خلق عشرات الكتاب الذين يقدمون إبداعاتهم في هذا الجنس الأدبي سواء كانت متميزة أو مسطحة لكنها موجودة بقوة ولها ملايين القراء وعلينا أن نهتم بها إن كنا نهتم بهؤلاء القراء من الأجيال الجديدة.
العرّاب المتواضع
في لقائي الوحيد معه شعرت بأهم صفاته؛ التواضع، والخجل، وكبرياء من يعرف قيمة نفسه بلا إفراط في مدح الذات، والقدرة على التحكم في النفس فلا تطيَّر رأسه الشهرة وإقبال ملايين القراء، مقارنة بآخرين لا يقرؤهم أحد ويتعالون على كل الناس! أرسلت له مجموعتي “روح الحكاية” التي حصلت على أول جائزة دولة تشجيعية للقصة القصيرة جدا عام 2015، وفوجئت به يرد بعد أيام قليلة بكلام جعلني أشعر أنني حصلت على الجائزة مرة أخرى.
في لقائي الوحيد معه؛ شعرت أن هذا الرجل وصل إلى درجة الرضا والسلام النفسي. وشعرت تجاهه بمحبة تزيد يومًا بعد يوم برغم رحيله، ولا أدري السبب، ربما يكون هذا سرًا آخر من الأسرار التي لم يكتبها أو يبح بها لأحد، وفضل أن يأخذها معه تاركًا لنا أريجها المحبوب يصاحبنا “حتى تحترق النجوم وحتى تفنى العوالم، حتى تتصادم الكواكب وتذبل الشموس وينطفئ القمر!”.
حزنت كثيرًا عندما وصلني خبر وفاته، لأنني لم أتواصل معه من قبل لفترة كافية، فقد كان طيبا ومثقفا ومحترما، وحزنت لمن تحدثوا عنه بطريقة غير لائقة بعد رحيله لكنهم يظهرون سوء أنفسهم بما ليس يضيره، وأظن أنه لو قرأ ما كتبوه لتضايق قليلًا، ثم ابتسم باستهانة وواصل إبداعه.
بالتأكيد توفيق يستحق كل المحبة التي نالها، ويستحق لقب العراب، ويستحق أن يظل حتى الآن أكثر الكتاب مقروئية، ولست أنا أو غيري من يحكم، فهو لم يعط لنفسه لقبا أو اهتماما بل أعطاه له من رأوا أنه يستحقه وليس من حق أحد أن يحتقر رأيهم أو يقلل منه.
ولم تفاجئني جنازته الكبيرة جدًا، فقد جربت الإقبال الشديد على ندوة مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية التي حجزت لها أكبر قاعة بالمكتبة، ثم فتحنا القاعة الثانية ليتابع الجمهور الندوة بها من خلال شاشة، ومع ذلك فإن نصف من حضروا لم يستطيعوا الدخول لامتلاء القاعتين، حتى إنني حصلت على الكثير من الدعوات الطيبة على الفيس بوك من شباب كنت السبب في أن يروا كاتبهم المفضل، وحصلت على الكثير من اللعنات ممن لم يستطيعوا الدخول.
وأتذكر أن ابنتي خلود جاءت في مطعم المكتبة وكنا نتناول الغداء مع توفيق، ولم تكن تعرفه، كانت في كلية التربية، قلت لها تعالي أصورك مع الدكتور فوقفت بجانبه لمجرد أنني طلبت منها، ثم نزلت، ثم اتصلت بي، قالت: “بابا هو الناس اللي في الشارع دول كلهم جايين عشان صاحبك اللي معاك؟!” قلت لها: “أيوة” قالت لي: “شارع بورسعيد مفيش فيه مكان فاضي من كتر الناس”. كنت أتوقع حضور عدد كبير، لكن ليس لهذه الدرجة. بعد أيام من الندوة أخبرتني ابنتي أن زميلاتها يحسدنها على أنها رأته وسلمت عليه وحصلت على صورة معه.
قيل إنه “جعل الشباب يقرأون” وأعتقد أنني أتفق مع العبارة، لكن ليس بالمعني السطحي لها، فقد كان الشباب قبله يقرأون، وكان هو نفسه شابًا يقرأ لكتاب آخرين ساعدوا في تكوينه، لكن بالتأكيد هو جعل فئات من الشباب يحبون القراءة ولو على المستوى الأولي لقراءة المغامرات، ثم يتدرجون منه إلى مستويات أعلى كان يقودهم هو بنفسه فيها بتطور كتاباته، كما أنه شجع أعدادًا كبيرة منهم على تجربة الكتابة، والتفكير، والإبداع، وهذا هو المهم. فهو كأي مبدع، ستبقى له أعمال صالحة للقراءة، وسيتجاوز الزمن والإبداع أعمالًا أخرى، بل إن بعض تلاميذه تجاوزوه إلى آفاق تخصهم، لكنه سيظل المعلم الذي فتح لهم الباب ورباهم على إبداعه، وهذه وحدها مكرمة ستكتب له.
في لقائي الوحيد معه؛ شعرت أن هذا الرجل وصل إلى درجة الرضا والسلام النفسي. وشعرت تجاهه بمحبة تزيد يومًا بعد يوم برغم رحيله، ولا أدري السبب، ربما يكون هذا سرًا آخر من الأسرار التي لم يكتبها أو يبح بها لأحد، وفضل أن يأخذها معه تاركًا لنا أريجها المحبوب يصاحبنا “حتى تحترق النجوم وحتى تفنى العوالم، حتى تتصادم الكواكب وتذبل الشموس وينطفئ القمر!”.