قلنا في الحكاية السابقة إن جذور الحداثة موجودة ومتحققة في المثل العليا لعصر التنوير، هناك سنجد دورا جديدا للفن والفنان. ببساطة، يمكننا القول بأن الهدف الأسمى للحداثة، والفن الحديث، هو بناء مجتمع أفضل. إذن ما الوسائل التي ساعدت على الوصول لهذا الهدف؟ إذا كانت الرغبة في القرن الثامن عشر لإنتاج مجتمع أفضل، وكيف كان هذا ليتم؟ كيف يمكن للمرء التوجه نحو إنتاج جنس بشري كامل ومتقن وخلق عالم أفضل؟
في حكايتنا التالية إجابة على سؤال شهرزاد
الوصول للحقيقة
كان الاعتقاد السائد في القرن الثامن عشر بأن العقل المتنور فقط هو الذي يستطيع الوصول للحقيقة، وأن كلا من التنوير والحقيقة اكتشفا من خلال إعمال العقل في المعرفة، وهي عملية أيضا خلقت معرفة جديدة. وهكذا حصل الانسان على المعرفة وفي نفس الوقت حصل على أدوات اكتشاف الحقائق من خلال التعليم والتدريب المناسب.
ومن خلال تطهير الفساد الكامن في الدين والأيديولوجية السياسية عبر التفكير العقلاني العلمي، والتعليم الذين قدما لنا بدورهما الحقيقة، وبينا لنا كيف يمكن الوصول إليها. لقد قام التعليم بتنويرنا وجعلنا أناسا أفضل من السابق. الأناس المتعلمون والمتنورون سوف يقومون بتشكيل مؤسسات المجتمع الجديد، المجتمع الذين سيعيدون بناءه من خلال جهودهم في هذا السبيل.
وحتى وقت قريب، ظلت هذه الفكرة في دور التعليم أساسية وحاسمة في تفكير الحداثي الغربي، والمفكرين المتنورين، وربما هنا علينا أن نشير على سبيل المثال إلى توماس جيفرسون الذي قدم لنا نموذجا عن المتابعة المستمرة للمعرفة، وغربلة معرفة الحقيقة عن طريق إخضاع كل ما تعلمه إلى التحليل المتروي. وبالطبع فإن جيفرسون لم يجنِ فقط وبوعي تنويره الخاص، ولكنه أيضا ساعد بنشاط في تعليم الآخرين، مؤسسا صرحا أكاديميا في شارلوت سفيل تحت اسم “القرية الأكاديمية” التي أصبحت فيما بعد تعرف باسم “جامعة فيرجينيا”.
لقد آمن بأن البحث عن الحقيقة يجب أن يتم دون تدخل الكنيسة، وإن كان لم يضع -ولم يكن متعمدا- مصلى للكنيسة داخل الحرم الجامعي. إلا أنه كان يرى أن الأفق الضيق للكنيسة يجب أن يبقى بعيدا عن التعليم وليس عن الدولة فقط.
الفن والعمارة
جيفرسون مثله مثل الكثير من المفكرين المتنورين رأى دورا واضحا لدور الفن في العمارة، فالفن والعمارة يمكنهما أن يخدما في عملية تعليم التنوير بتوفير نماذج لهذه النوعيات وفرضيات يمكنها أن تقود العقل المتنور.
في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، كان نموذج المثالي في المجتمع الجديد موجودا في روما القديمة وفي بلاد الإغريق. كانت فترة أثينا في عهد بريكليس والجمهورية الرومانية تقدمان نماذج لطيفة لدمج مبادئ الديمقراطية في الحكومة والأنشطة الخيرة وإنكار الذات والتعاليم المدنية، كانت كل هذه النماذج ملحوظة في سلوك مواطنيهم.
في الحقيقة كان من المعتقد وبالتأكيد طبقا للقدماء في معاركهم مع الحداثيين، وهو ما ذكر مؤخرا من أن القدماء قدموا للعالم نوعا من الكمال، نوعا من المثالية اقتربت من الفهم المتنور للحقيقة. إن مؤرخ الفن الألماني يوهان وينكلمان على قناعة بأن الفن في اليونان القديمة كان الأكثر مثالية، ووجه فنانينا المعاصرين إلى نماذج قاطعة مثل تمثال أبولو الرخامي.
في مثل هذه الظروف أتى جاك لوي دافيد لدهان اللوحة المعروفة باسم “قسم هوراتي”[1] والمعروضة في المعرض عام 1785. وقد فضل دافيد استخدام الأساليب الكلاسيكية والأكاديمية في ذلك. وتصور اللوحة لحظة إثارة في قصة بطولية من الشجاعة والوطنية والتضحية بالنفس في روما ما قبل الجمهورية. حيث يلاحظ هذا التمثال الذكوري الثابت الذي يقف في شمال اللوحة والذي يمثل الفضائل الإنسانية النبيلة.
إن حركاتهم المشدودة والممتلئة بالطاقة والحيوية والتي تعبر عنها أجسادهم وملامح وجوههم التي تتعارض مع الحواف الدائرية والإنهيار الشكلي للنساء الذين يقفون على اليمين واللائي يهيمن عليهن العاطفة والحزن مما يعكس الضعف في الطبيعة الأنثوية. كان ذلك عملا عظيما وهائلا يعالج مفهوم الشرف والموعظة.
لقد رأى دافيد نفسه دور الفن في بناء المجتمع الجديد بعبارات لا لبس فيها. وكداعم نشط للثورة الفرنسية، كان عضوا في اللجنة الثورية للتوعية الشعبية، حيث شرح ذلك قائلا إن اللجنة:
“اعتبرت الفن غايته الاحترام، حيث إنه منوط به نشر التقدم في الروح الانسانية، وبثه ونقله إلى الأجيال القادمة ومثال هائل على الجهود السامية لشعب عظيم، مسترشدا بالعقل والفلسفة، واستعادة الأرض إلى عهد من الحرية والمساواة والقانون. كما يؤكد بشكل قاطع على أن الفنون هي التي تشكل الوعي العام”.
القدماء والحداثيون
وفيما يتعلق بالتطاحن بين القدماء والحداثيين، كان دافيد داعما ومؤيدا للقدماء، فقد كان يتصور مجتمعا جديدا يقوم على المثل المحافظة. في المقابل، كان هناك فنانون آخرون، يمكن أن نطلق عليهم “الحداثيون”، الذين كانوا يرون نظاما عالميا جديدا أكثر تقدما. يقدمون تصورا جديدا تماما، وليست صورا مبنيا على فكرة مجرد تقليد النماذج القديمة.
ومع ذلك، كانت مشكلة الحداثيين هي أن العالم الذي يدعون إليه كان شيئا لا يمكن معرفة كنهه الحقيقي. وكانت طبيعة “الحقيقة” أنها تمثل إشكالية عميقة منذ البداية، وتلك المعضلة حول طبيعة البشر الذين يملكون ليس فقط العقل الرشيد المنفتح على فكرة العقلانية (السببية) ولكن أيضا الحياة العاطفية التي كان لابد من أخذها في الحسبان.
كان هناك احساس غامض بأن السبب يرجع لرغبة في خنق الخيال، ولكن دون الخيال لن يتم إحراز أي تقدم. إن فكرة السببية وحدها تبدو لا إنسانية، ولكن الخيال من دون عقل يمكن أن “ينتج وحوشا”. وعلى الرغم من الاتفاق على أن الحرية أمر جوهري ومركزي إلا أنه من المقرر أن تختبر هذه الحرية من خلال ممارسات جادة في العالم المعاصر.
المحافظون والتقدميون
بعد الثورة الفرنسية عام 1798، تم الكشف عن علاقة القدماء بالنظام السياسي السابق، النظام القديم كما يدعى. وتم دمغهم سياسيا باسم المحافظين، ويقومون بتقديم نوع من الفن يطلق عليه أكاديميا اسم الكلاسيكية الجديدة.
من الناحية الأخرى، أطلق على الحداثيين اسم التقدميين أو الجناح اليساري، وبمعنى ثوري آخر يرتبط بالحركة المضادة للأكاديمية التى تسمى الرومانتيكية. إن طبيعة هذا التقسيم يمكن رؤيتها في جلالها في تصاوير وأعمال الفنان الكلاسيكي جين اوجست دومينيك لنجريه والرومانتيكي أوجين دولاكروا.
في معرض صالون عام 1824، عرض لنجريه لوحته المسماة “عهد لويس الثالث عشر” وعرض دولا كروا لوحته المسماة “مسلخة جزيرة خيوس اليونانية”. في مقالته الاستعراضية للمعرض في مجلة محاورات débats، وصف الناقد إتيان جان دو لاكلوز عمل لنجريه بـ”الجميل” لأنه في كل من الأسلوب والموضوع خضع للنظرية الأكاديمية الكلاسيكية واتبع نمطها وروج للجناح اليميني في الفن، والقيم المحافظة للنظام القديم.
في المقابل، وصف عمل دو لاكروا بـ”القبيح” بسبب الطريقة التي تم رسمه بها، مع ضربات فرشاة فضفاضة وشخصيات غير مثالية، وطبيعة موضوعها المتعلق بذبح الآلاف من السكان اليونانيين في جزيرة خيوس من قبل الجنود الأتراك عام 1822، ليس فقط لافتقارها إلى النموذج في البسالة والفضيلة، ولكنه أعرب أيضا عن انتقاده بشكل أكثر ليبرالية للحدث واجتياح الغضب الأخلاقي ضده في العالم المعاصر.
بالنسبة للمحافظين، فقد قام لنجريه بتمثيل النظام، بقيمه وتقاليده، وكل العهد الرائع الماضي للنظام القديم، بينما رأى السياسيون التقدميون أن دو لاكروا يمثل الحياة المعاصرة أو الحديثة. لقد كان مرتبطا بالثورة السياسية، ووجهة النظر الفكرية التقدمية الجديدة، وذهب مؤيدوه إلى أنه أقام فكرة الحرية في الفن.
لقد كان دو لاكروا أول فنان حداثي تقدمي في فرنسا. فقد رفض بشكل متعمد عبر لوحاته النموذج الأكاديمي للجمال وصلابته، وبجانب ذلك في وجهة نظر المحافظين النقدية له، انه وضع الأساس لعبادة القبح. فيما ظهر فنانون يتوافقون مع نفس الفكرة مثل جوستاف كوبريه وإدوارد مونيه. فكلاهما رفض متعمدا أيضا النموذج الأكاديمي للجمال. فقد كان منهجهما وأفكارهما في الفن ينظر إليها على أنها مخربة واتهما بمحاولة -ليس فقط- هدم الأكاديمية، ولكن الدولة ايضا.
تهديد الحداثة التقدمية
إن التهديد لمفهوم الحداثة التقدمية في الفن أتى من الدولة نفسها، ففي المعرض العالمي بباريس عام 1855 تم الشروع في برنامج لتحييد وعدم تسييس الفن. وكانت الخطة في هذا المعرض هي تضمين معرض راجع يمثل مختلف الأشكال الفنية للفن في فرنسا، بما فيها أعمال لنجريه ودو لاكروا. في هذه الطريقة التي أبرزت الانتقائية، وفي نفس الوقت أكدت على عدم تهديد اللوحات للأعمال الفنية، وبدعم من القوى المحافظة وامتثالا للنقاد ومؤرخي الفن التشكيلي، والمعلقون السياسيون والاجتماعيون تم تجاهل الفنان الحداثي تماما وجردت لوحاته إلا من الطلاء والقماش، ونوقشت الأعمال بسطحية متناهية من حيث صفاتها الشكلية لا أكثر ولا أقل.
في دليل المعرض العالمي لعام 1855، كان الأمير نابوليون جوزيف شارل بول بونابارت رئيسا للمعرض، وقد كتب عن لوحة دى لاكروا “الحرية تقود الشعب”، في 28 يوليو 1830:
لم تعد هناك حاجة لأي من المناقشات العنيفة والآراء التحريضية حول الفن، ودي لاكروا الرسام لم يعد تلك الشعلة الثورية لكنه أصبح يحتل مكانته في تاريخ الفن مثله مثل لنجريه، وحسنا فعل المعرض العالمي بوضع لوحاتهم جميعا بشكل جيد بما فيهم دو لا كروا، وترك الحكم عليه وعلى الآخرين للمدارس الفنية والمعلقين وفي أكاديميات الفن شأنه شأن كل العباقرة والمبدعين.
وهكذا تحول دو لاكروا “شعلة الثورة” إلى مجرد رسام. أيضا فإن بعض الفنانين التقدميين مثل جوستاف كوبريه، استشعارا منهم للكيفية التي ستوضع وتعامل بها لوحاتهم في المعرض رفضوا المشاركة، حيث بدا المعرض العالمي على نحو فعال وسيلة لاحتواء نبضات الحداثة التقدمية وتحييد التهديد الذي تشكله بالنسبة للروح المحافظة السائدة في المجتمع. وحتى وقت قريب، مثل ذلك ميزة منهجية للحداثة، فالبيانات الاشتراكية التي أطلقها جوستاف كوبريه في لوحته “محطمو الأحجار” على سبيل المثال، شاركه التعليق السياسي عليها من قبل إدوارد مونيه في لوحته إعدام الإمبراطور ماكسيميليان، عام 1876، إلا أن ذلك تم قمعه والاستعاضة عنه بمناقشات عامة تتعلق بالصفات الشكلية لكل عمل.
ولكن على الرغم من هذه المناقشات التي قمعت بشكل متعمد طابعها الثوري وقدرتها على المواجهة، فإن الحداثة التقدمية نفسها، كفكر وحركة سياسية، بقيت ممتلئة بالحيوية والنشاط.