أحدث الحكايا

د. زين عبد الهادي يحكي: الأبعاد التاريخية للحداثة (3).. أدوات ووسائل الحداثة

قلنا في الحكاية السابقة إن جذور الحداثة موجودة ومتحققة في المثل العليا لعصر التنوير، هناك سنجد دورا جديدا للفن والفنان. ببساطة، يمكننا القول بأن الهدف الأسمى للحداثة، والفن الحديث، هو بناء مجتمع أفضل. إذن ما الوسائل التي ساعدت على الوصول لهذا الهدف؟ إذا كانت الرغبة في القرن الثامن عشر لإنتاج مجتمع أفضل، وكيف كان هذا ليتم؟ كيف يمكن للمرء التوجه نحو إنتاج جنس بشري كامل ومتقن وخلق عالم أفضل؟

في حكايتنا التالية إجابة على سؤال شهرزاد

الوصول للحقيقة

كان الاعتقاد السائد في القرن الثامن عشر بأن العقل المتنور فقط هو الذي يستطيع الوصول للحقيقة، وأن كلا من التنوير والحقيقة اكتشفا من خلال إعمال العقل في المعرفة، وهي عملية أيضا خلقت معرفة جديدة. وهكذا حصل الانسان على المعرفة وفي نفس الوقت حصل على أدوات اكتشاف الحقائق من خلال التعليم والتدريب المناسب.

ومن خلال تطهير الفساد الكامن في الدين والأيديولوجية السياسية عبر التفكير العقلاني العلمي، والتعليم الذين قدما لنا بدورهما الحقيقة، وبينا لنا كيف يمكن الوصول إليها. لقد قام التعليم بتنويرنا وجعلنا أناسا أفضل من السابق. الأناس المتعلمون والمتنورون سوف يقومون بتشكيل مؤسسات المجتمع الجديد، المجتمع الذين سيعيدون بناءه من خلال جهودهم في هذا السبيل.

وحتى وقت قريب، ظلت هذه الفكرة في دور التعليم أساسية وحاسمة في تفكير الحداثي الغربي، والمفكرين المتنورين، وربما هنا علينا أن نشير على سبيل المثال إلى توماس جيفرسون الذي قدم لنا نموذجا عن المتابعة المستمرة للمعرفة، وغربلة معرفة الحقيقة عن طريق إخضاع كل ما تعلمه إلى التحليل المتروي. وبالطبع فإن جيفرسون لم يجنِ فقط وبوعي تنويره الخاص، ولكنه أيضا ساعد بنشاط في تعليم الآخرين، مؤسسا صرحا أكاديميا في شارلوت سفيل تحت اسم “القرية الأكاديمية” التي أصبحت فيما بعد تعرف باسم “جامعة فيرجينيا”.

لقد آمن بأن البحث عن الحقيقة يجب أن يتم دون تدخل الكنيسة، وإن كان لم يضع -ولم يكن متعمدا- مصلى للكنيسة داخل الحرم الجامعي. إلا أنه كان يرى أن الأفق الضيق للكنيسة يجب أن يبقى بعيدا عن التعليم وليس عن الدولة فقط.

الفن والعمارة

جيفرسون مثله مثل الكثير من المفكرين المتنورين رأى دورا واضحا لدور الفن في العمارة، فالفن والعمارة يمكنهما أن يخدما في عملية تعليم التنوير بتوفير نماذج لهذه النوعيات وفرضيات يمكنها أن تقود العقل المتنور.

في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، كان نموذج المثالي في المجتمع الجديد موجودا في روما القديمة وفي بلاد الإغريق. كانت فترة أثينا في عهد بريكليس والجمهورية الرومانية تقدمان نماذج لطيفة لدمج مبادئ الديمقراطية في الحكومة والأنشطة الخيرة وإنكار الذات والتعاليم المدنية، كانت كل هذه النماذج ملحوظة في سلوك مواطنيهم.

في الحقيقة كان من المعتقد وبالتأكيد طبقا للقدماء في معاركهم مع الحداثيين، وهو ما ذكر مؤخرا من أن القدماء قدموا للعالم نوعا من الكمال، نوعا من المثالية اقتربت من الفهم المتنور للحقيقة. إن مؤرخ الفن الألماني يوهان وينكلمان على قناعة بأن الفن في اليونان القديمة كان الأكثر مثالية، ووجه فنانينا المعاصرين إلى نماذج قاطعة مثل تمثال أبولو الرخامي.

تمثال أبوللو .. نسخة رخامية من التمثال الأصلي المصنوع من البرونز تعود لعام 330 ق.م.
(متحف الفاتيكان ، روما)

 

في مثل هذه الظروف أتى جاك لوي دافيد لدهان اللوحة المعروفة باسم “قسم هوراتي”[1] والمعروضة في المعرض عام 1785. وقد فضل دافيد استخدام الأساليب الكلاسيكية والأكاديمية في ذلك. وتصور اللوحة لحظة إثارة في قصة بطولية من الشجاعة والوطنية والتضحية بالنفس في روما ما قبل الجمهورية. حيث يلاحظ هذا التمثال الذكوري الثابت الذي يقف في شمال اللوحة والذي يمثل الفضائل الإنسانية النبيلة.

إن حركاتهم المشدودة والممتلئة بالطاقة والحيوية والتي تعبر عنها أجسادهم وملامح وجوههم التي تتعارض مع الحواف الدائرية والإنهيار الشكلي للنساء الذين يقفون على اليمين واللائي يهيمن عليهن العاطفة والحزن مما يعكس الضعف في الطبيعة الأنثوية. كان ذلك عملا عظيما وهائلا يعالج مفهوم الشرف والموعظة.

جاك لوي دافيد، قسم هوراتي أو قسم الاخوة هوراس
1785، زيت على كانافاه – متحف اللوفر بباريس- في الصالة 75
جزء من لوحة قسم هوراتي لجاك لوي دافيد
جزء آخر من لوحة قسم هوراتي لجاك لوي دافيد

 

لقد رأى دافيد نفسه دور الفن في بناء المجتمع الجديد بعبارات لا لبس فيها. وكداعم نشط للثورة الفرنسية، كان عضوا في اللجنة الثورية للتوعية الشعبية، حيث شرح ذلك قائلا إن اللجنة:

“اعتبرت الفن غايته الاحترام، حيث إنه منوط به نشر التقدم في الروح الانسانية، وبثه ونقله إلى الأجيال القادمة ومثال هائل على الجهود السامية لشعب عظيم، مسترشدا بالعقل والفلسفة، واستعادة الأرض إلى عهد من الحرية والمساواة والقانون. كما يؤكد بشكل قاطع على أن الفنون هي التي تشكل الوعي العام”.

القدماء والحداثيون

وفيما يتعلق بالتطاحن بين القدماء والحداثيين، كان دافيد داعما ومؤيدا للقدماء، فقد كان يتصور مجتمعا جديدا يقوم على المثل المحافظة. في المقابل، كان هناك فنانون آخرون، يمكن أن نطلق عليهم “الحداثيون”، الذين كانوا يرون نظاما عالميا جديدا أكثر تقدما. يقدمون تصورا جديدا تماما، وليست صورا مبنيا على فكرة مجرد تقليد النماذج القديمة.

ومع ذلك، كانت مشكلة الحداثيين هي أن العالم الذي يدعون إليه كان شيئا لا يمكن معرفة كنهه الحقيقي. وكانت طبيعة “الحقيقة” أنها تمثل إشكالية عميقة منذ البداية، وتلك المعضلة حول طبيعة البشر الذين يملكون ليس فقط العقل الرشيد المنفتح على فكرة العقلانية (السببية) ولكن أيضا الحياة العاطفية التي كان لابد من أخذها في الحسبان.

كان هناك احساس غامض بأن السبب يرجع لرغبة في خنق الخيال، ولكن دون الخيال لن يتم إحراز أي تقدم. إن فكرة السببية وحدها تبدو لا إنسانية، ولكن الخيال من دون عقل يمكن أن “ينتج وحوشا”. وعلى الرغم من الاتفاق على أن الحرية أمر جوهري ومركزي إلا أنه من المقرر أن تختبر هذه الحرية من خلال ممارسات جادة في العالم المعاصر.

فرانشيسكو دي جويا
نوم العقل يخلق وحوشا
 نقش بالألوان المائية – 1796-1797

المحافظون والتقدميون

بعد الثورة الفرنسية عام 1798، تم الكشف عن علاقة القدماء بالنظام السياسي السابق، النظام القديم كما يدعى. وتم دمغهم سياسيا باسم المحافظين، ويقومون بتقديم نوع من الفن يطلق عليه أكاديميا اسم الكلاسيكية الجديدة.

من الناحية الأخرى، أطلق على الحداثيين اسم التقدميين أو الجناح اليساري، وبمعنى ثوري آخر يرتبط بالحركة المضادة للأكاديمية التى تسمى الرومانتيكية. إن طبيعة هذا التقسيم يمكن رؤيتها في جلالها في تصاوير وأعمال الفنان الكلاسيكي جين اوجست دومينيك لنجريه والرومانتيكي أوجين دولاكروا.

في معرض صالون عام 1824، عرض لنجريه لوحته المسماة “عهد لويس الثالث عشر” وعرض دولا كروا لوحته المسماة “مسلخة جزيرة خيوس اليونانية”. في مقالته الاستعراضية للمعرض في مجلة محاورات débats، وصف الناقد إتيان جان دو لاكلوز عمل لنجريه بـ”الجميل” لأنه في كل من الأسلوب والموضوع خضع للنظرية الأكاديمية الكلاسيكية واتبع نمطها وروج للجناح اليميني في الفن، والقيم المحافظة للنظام القديم.

في المقابل، وصف عمل دو لاكروا بـ”القبيح” بسبب الطريقة التي تم رسمه بها، مع ضربات فرشاة فضفاضة وشخصيات غير مثالية، وطبيعة موضوعها المتعلق بذبح الآلاف من السكان اليونانيين في جزيرة خيوس من قبل الجنود الأتراك عام 1822، ليس فقط لافتقارها إلى النموذج في البسالة والفضيلة، ولكنه أعرب أيضا عن انتقاده بشكل أكثر ليبرالية للحدث واجتياح الغضب الأخلاقي ضده في العالم المعاصر.

ج.ا.د. لنجريه. عهد لويس الثالث عشر
1824 ، زيت على كانافاه ، متحف اللوفر – باريس
أوجين دو لاكروا، مسلخة خيوس1824،
زيت على كانافاه – متحف اللوفر – باريس

 

بالنسبة للمحافظين، فقد قام لنجريه بتمثيل النظام، بقيمه وتقاليده، وكل العهد الرائع الماضي للنظام القديم، بينما رأى السياسيون التقدميون أن دو لاكروا يمثل الحياة المعاصرة أو الحديثة. لقد كان مرتبطا بالثورة السياسية، ووجهة النظر الفكرية التقدمية الجديدة، وذهب مؤيدوه إلى أنه أقام فكرة الحرية في الفن.

لقد كان دو لاكروا أول فنان حداثي تقدمي في فرنسا. فقد رفض بشكل متعمد عبر لوحاته النموذج الأكاديمي للجمال وصلابته، وبجانب ذلك في وجهة نظر المحافظين النقدية له، انه وضع الأساس لعبادة القبح. فيما ظهر فنانون يتوافقون مع نفس الفكرة مثل جوستاف كوبريه وإدوارد مونيه. فكلاهما رفض متعمدا أيضا النموذج الأكاديمي للجمال. فقد كان منهجهما وأفكارهما في الفن ينظر إليها على أنها مخربة واتهما بمحاولة -ليس فقط- هدم الأكاديمية، ولكن الدولة ايضا.

تهديد الحداثة التقدمية

إن التهديد لمفهوم الحداثة التقدمية في الفن أتى من الدولة نفسها، ففي المعرض العالمي بباريس عام 1855 تم الشروع في برنامج لتحييد وعدم تسييس الفن. وكانت الخطة في هذا المعرض هي تضمين معرض راجع يمثل مختلف الأشكال الفنية للفن في فرنسا، بما فيها أعمال لنجريه ودو لاكروا.  في هذه الطريقة التي أبرزت الانتقائية، وفي نفس الوقت أكدت على عدم تهديد اللوحات للأعمال الفنية، وبدعم من القوى المحافظة وامتثالا للنقاد ومؤرخي الفن التشكيلي، والمعلقون السياسيون والاجتماعيون تم تجاهل الفنان الحداثي تماما وجردت لوحاته إلا من الطلاء والقماش، ونوقشت الأعمال بسطحية متناهية من حيث صفاتها الشكلية لا أكثر ولا أقل.

في دليل المعرض العالمي لعام 1855، كان الأمير نابوليون جوزيف شارل بول بونابارت رئيسا للمعرض، وقد كتب عن لوحة دى لاكروا “الحرية تقود الشعب”، في 28 يوليو 1830:

لم تعد هناك حاجة لأي من المناقشات العنيفة والآراء التحريضية حول الفن، ودي لاكروا الرسام لم يعد تلك الشعلة الثورية لكنه أصبح يحتل مكانته في تاريخ الفن مثله مثل لنجريه، وحسنا فعل المعرض العالمي بوضع لوحاتهم جميعا بشكل جيد بما فيهم دو لا كروا، وترك الحكم عليه وعلى الآخرين للمدارس الفنية والمعلقين وفي أكاديميات الفن شأنه شأن كل العباقرة والمبدعين.

اوجين دى لاكروا، الحرية تقود الشعب، 28 يوليو 1830
زيت على كانافاه (متحف اللوفر بباريس) 1830

 

وهكذا تحول دو لاكروا “شعلة الثورة” إلى مجرد رسام. أيضا فإن بعض الفنانين التقدميين مثل جوستاف كوبريه، استشعارا منهم للكيفية التي ستوضع وتعامل بها لوحاتهم في المعرض رفضوا المشاركة، حيث بدا المعرض العالمي على نحو فعال وسيلة لاحتواء نبضات الحداثة التقدمية وتحييد التهديد الذي تشكله بالنسبة للروح المحافظة السائدة في المجتمع. وحتى وقت قريب، مثل ذلك ميزة منهجية للحداثة، فالبيانات الاشتراكية التي أطلقها جوستاف كوبريه في لوحته “محطمو الأحجار” على سبيل المثال، شاركه التعليق السياسي عليها من قبل إدوارد مونيه في لوحته إعدام الإمبراطور ماكسيميليان، عام 1876، إلا أن ذلك تم قمعه والاستعاضة عنه بمناقشات عامة تتعلق بالصفات الشكلية لكل عمل.

ولكن على الرغم من هذه المناقشات التي قمعت بشكل متعمد طابعها الثوري وقدرتها على المواجهة، فإن الحداثة التقدمية نفسها، كفكر وحركة سياسية، بقيت ممتلئة بالحيوية والنشاط.

محطمو الأحجار – 1849-1850 زيت على كانافاه (تحطمت)
جوستاف كوبريه

[1] الفنان جاك لوي دافيد (30 أغسطس 1748 – 29 ديسمبر 1825) (Jacques-Louis David) كان رساماً فرنسياً، وأحد أبرز فناني المدرسة الكلاسيكية الجديدة.
ولد لعائلة باريسية من الطبقة المتوسطة في عام 1748. بعد أن اغتيل والده، عاش مع أعمامه. حين بلغ من العمر ستة عشر عاماً، درس الفن في الأكاديمية الملكية (Académie Royale). في عام 1774 ربح جائزة روما. بعد ذلك سافر إلى إيطاليا حيث تأثر بالفن الكلاسيكي، وبأعمال فنان القرن 17 نيكولا بوسان. ومكث هناك لستة أعوام. ابتكر دافيد أسلوب كلاسيكي جديد خاص به.
كان دافيد من الذين دعموا الثورة الفرنسية بشكل كبير، فأصبح بعد ذلك رسام الثورة الرسمي. عمل دافيد على إحياء تقاليد الفن الروماني، فقد كان التكوين في لوحاته يعتمد على قواعد هندسية صارمة، فكان الخط وليس اللون موضع اهتمامه، وقد أنشأ دافيد “أكاديمية الفنون” التي كانت ممثلة للذوق الرسمي للثورة الفرنسية وحاربت جميع الحركات الفنية الجديدة.
كان دافيد أحد أقرباء الفنان بوشيه الذي ساعده في بداياته حينما كان تلميذاً لديه. من أشهر أعماله: “قسم القتال” (1784)، و”موت مارات” (1793)، و”نساء سابين” (1799)ونابليون عابرًا جبال الألب (1805- 1801). توفي عام 1825 في بروكسل. ومن تلاميذه الفنان البلجيكي فرانسوا جوزيف نيفيز
وذلك في موسوعة الويكيبيديا (النص الانجليزي والعربي) في:
https://ar.wikipedia.org/wiki/جاك لوي دافيد
أما عن اللوحة استمد دافيد موضوع هذه اللوحة من حادثة ورد ذكرها في التاريخ الروماني القديم.
ففي حوالي نهاية القرن السابع قبل الميلاد، قرّر أهالي كلّ من “روما” و “ألبا” أن يحسموا بشكل نهائي وبطريقة غير مألوفة الصراع الطويل والمستمرّ بين الشعبين.
وقد استقرّ رأي الطرفين على أن ينظّموا مبارزة دامية يختارون لكلّ طرف فيها أفضل ثلاثة مقاتلين لديه.وكان أن اختارت روما لهذه الغاية ثلاثة أشقاء من عائلة هوراتي، كبرى العائلات الارستقراطية فيها. بينما اختارت ألبا ثلاثة أشقاء من عائلة كورياتي المعروفة بنبلها وعراقتها
الجانب الميلودرامي في القصّة، ولعله أهمّ عنصر فيها، هو أن إحدى شقيقات الإخوة كورياتي، واسمها سابينا، كانت متزوجّة من أحد الإخوة هوراتي. وإحدى شقيقات الهوراتي، واسمها كاميليا، كانت مخطوبة لأحد الإخوة كورياتي.
في اللوحة نرى والد الأشقاء هوراتي حاملا بيده حزمة من ثلاثة سيوف ومحرّضا أبناءه على القتال بشجاعة واستبسال.
نظرات الإخوة الثلاثة تبدو مصمّمة وأيديهم ممتدّة بصلابة بينما يعلنون ولاءهم لروما ويقسمون على التضحية بحياتهم من أجل الواجب الوطني.
جوّ المشهد يوحي بالرهبة. وما يعمّق هذا الشعور طريقة الفنان البارعة في توزيع الضوء وتمثيل الظلال على امتداد مساحات اللوحة.
هناك أيضا هذا التضادّ بين نوعين من الانفعالات المتباينة كما يظهران على جانبي اللوحة.
فإلى اليسار لا يوحي المنظر سوى بالقسوة والعنف والصرامة. فالأب يقف بملامح جامدة ونظرات باردة. انه متحمّس جدّا للقتال لدرجة أن الدم يكاد ينبجس من عروق ساقه النافرة. وواضح أنه غير مكترث كثيرا باعتبارات النسَب والمصاهرة التي تربط بين العائلتين. وعلى الجانب الأيمن صورة للضعف الإنساني في أجلى صوره كما يمثله منظر النساء الباكيات الحزينات. واعتمادا على تفاصيل القصّة، يمكن للمرء أن يتخيّل أن المرأة التي ترتدي الملابس البيضاء هي كاميليا شقيقة الإخوة، وأن التي إلى جانبها هي زوجة أحدهم أي سابينا. وفي الخلفية تظهر امرأة ثالثة بملابس سوداء وهي تحتضن طفلين يبدو الأكبر منهما وقد اكتسى وجهه بعلامات الخوف والتوتّر. رسم أكثر من فنّان هذه القصّة وتناولوها باعتبارها لعبة تنافُس على السلطة والنفوذ بين أسرتين ارستقراطيّتين قرّرتا في النهاية التضحية بالمشتركات الإنسانية وانتصرت فيها المصالح السياسية على مقتضيات الحبّ والعاطفة.
غير أن الفنان دافيد اختار، كعادته، أن يشحن القصّة بالتوتّر والفخامة وأن يخلع عليها مضمونا وطنيا ويضمّنها أفكارا عن الاتّحاد، وقوّة الإرادة، والإصرار، والعزيمة. تعتبر اللوحة أحد أعمال دافيد الأكثر أهميّة، بل وإحدى اللوحات المهمّة في تاريخ الفنّ الفرنسي كله. وقد أصبحت نموذجا للوحات التاريخية التي ظهرت فيما بعد وأضحت ترمز للبطولة والنبل والتضحية. وهناك من النقاد من يعزو سبب صعود دافيد وشهرته إلى هذا العمل بالذات.
نقلا عن مدونة: arteducation
http://artmbn.blogspot.com.eg/2012/09/blog-post_222.html
[2] Audio guide LOUVRE MUSEUM – David The Oath Of The Horatii Denon Wing Hall 75 – Tour Guide | MyWoWo
[3] Francisco de Goya, The Sleep of Reason Produces Monsters (El sueño de… | Download Scientific Diagram (researchgate.net)

عن د. زين عبد الهادي

باحث وروائي مصري، نشر له العديد من الأعمال العلمية والإبداعية، أستاذ علم المكتبات والمعلومات جامعة حلوان، المشرف العام على مكتبة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، رئيس تحرير مجلة عالم الكتاب التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وزارة الثقافة (سابقا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *