أحدث الحكايا

د. سارة حوَّاس: حكاية ناتاشا تريثيوي التي حوّلها الألم إلى شاعرة

“الجرح هو المكان الذي يوجد فيه الضَّوء الذي يدخل إلى أعماقك ولا تلتفت بعيدا، حافظ على بصرك على مكان جرحك، هناك حيث يدخل الضوء إليك”.

أبدأ حديثي عن الشاعرة الأمريكية ناتاشا تريثيوي، Natasha Trethewey، بكلماتٍ معبِّرة وعميقة لجلال الدين الرومي، لأنني وجدت فيها ما يعبِّر بعمق عن حياة تريثيوي وجرحها الغائر الذي تمثَّل في مقتل والدتها جويندولن تيرنبو على يد طليقها السابق. وكانت تريثيوي حينذاك في التاسعة عشر من عمرها، ذلك الجرح نفسه الذي سيجعل منها شاعرةً فيما بعد، فعن تلك اللحظة التي قتل فيها طليقها والدتها قالت: ”كانت تلك هي اللحظة عندما شعرت أنني سأصبح شاعرة واتجهت إلى الشعر لأفهم ماذا حدث”.

نعم، مقتل والدة تريثيوي كان العامل الرئيس لاتجاهها نحو الشعر والنجاح، أي أن ألم الفقد هو طريق النور الذي تبعته تريثيوي حتى وصلت إلى النجاح والشهرة في الساحة الشعرية الأمريكية.

الشاعرة ناتاشا تريثيوي

حكاية ناتاشا تريثيوي

ناتاشا تريثيوي شاعرة أمريكية ولدت في جولفبورت ميسيسيبي بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٦٦. سافر والداها إلى أوهايو للزواج لأن الزواج بين الأعراق المختلفة كان غير قانوني في ذلك الوقت في ميسيسيبي، حيث كانت والدتها أفروأمريكية (سوداء)، ووالدها كان كنديًّا (أبيض)، وفي حوار أجراه معها إسحاق تشوتينر الكاتب بمجلة “ذا نيويوركر” قالت إنها ابنة تمازج الأجناس، وفي ذلك الوقت كانت هناك مناهضة لاختلاط الأجناس؛ مما جعلها غير شرعية في نظر القانون، أي نوع من الأشخاص غير المرغوب فيهم.

صورة عائلية لناتاشا تريثيوي طفلة مع والديها
صورة عائلية لناتاشا تريثيوي تضم والديها

والمفارقة الغريبة في انتهاء الأمر بأتلانتا هي أن ناتاشا ووالدتها انتقلا إلى هناك عام ١٩٧٢، و هو العام الذي انتهى فيه بناء ستون ماونتن، النصب التذكاري للكونفدرالية، وقُتلت والدتها على يد زوجها السابق -الزوج الثاني بعد فترة وجيزة من الطلاق- في طريق ميموريال درايف، وهو الطريق الذي يمتد من وسط مدينة أتلانتا إلى قاعدة ستون ماونتن، لذا ماتت والدتها في ظل ذلك النصب التذكاري الكونفدرالي. وعن ذلك قالت ناتاشا:

“يبدو أنني ولدت في زمان ومكان تاريخيين محددين، والخط الفاصل لتلك الجغرافيا له علاقة كاملة بالكونفدرالية والأفكار حول تفوق البيض وتبعية السود التي كنت أحاربها طوال حياتي”.

جروح خلقت الشعر

وناتاشا  لديها جرحان عميقان جعلا منها كاتبة وشاعرة، أحدهما هو تلك الخسارة الكبيرة وجرحها الأعمق فقدان والدتها. والجرح الآخر هو جرح التاريخ الذي له علاقة بكونها سوداء وثُنائية العرق، ولدت في مكان من شأنه أن يجعلها غير شرعية في نظر القانون. ذلك المكان الذي كان يذكر السود دائما على مدى قرون بوضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وذلك من خلال الآثار الكونفدرالية والعلم الكونفدرالي وقوانين چيم كرو، وكل الأشياء التي تشكل جزءا من تاريخهم المشترك كأمريكيين. وفي هذا الصدد، قالت تريثيوي: “هذان الجرحان عميقان ومترابطان بالنسبة إليَّ”.

نتيجة لهذه الأحداث كتبت تريثيوي «ميموريال درايف»، وهو كتاب مذاكرات عن حياتها المبكرة وحياة والدتها ومقتلها، مستمدة ليس فقط من ذكرياتها الخاصة ولكن أيضا من وثائق المحكمة التي حصلت عليها في السنوات الأخيرة بما في ذلك مذاكرات احتفظت بها والدتها في الأسابيع التي سبقت مقتلها.

غلاف كتاب Memorial Drive

كل تلك الأحداث  الأليمة التي مرت بها تريثيوي أثّرت بالطبع في كتاباتها الشعرية والنثرية، حيث يعد التاريخ الأمريكي والأسرة والهوية العرقية من التيمات التي تدور حولها قصائدها الشعرية.

طلب إسحاق تشوتينر من تريثيوي أن تحكي عن تجربتها في حين أن أحد الأساتذة قد طلب منها ذات مرة أن: “حرري نفسك من كونك سوداء”. قالت تريثيوي إن كل ما قاله ذلك الأستاذ هو : “حرري نفسك من كونك سوداء، وتخلصي من عبء مقتل والدتك، واكتبي عن الوضع في أيرلندا الشمالية”. و هو أمر كان يعتقد أنه أكثر عالمية أو أكثر إثارة للاهتمام للكتابة عنه. وأضافت أنه قد قيل للكُتَّاب السود لفترة طويلة أن عليهم الكتابة عن شيء آخر وعن موضوعات يعتقد البيض أنها أكثر عالمية. وقالت إنه من العنصرية أن يقال بطريقة أو بأخرى إن قصص الأمريكيين من أصل أفريقي ليست عالمية كقصص البيض الذي يصل صداها إلى كل العالم.

تريثيواي ووالدتها

تريثيوي بين النثر والشعر

في كتابها “ميموريال درايڤ” سُئلت عن تجربتها وعن كتابة النثر بصفة عامة بالمقارنة مع كتابتها الشِّعْر،  فقالت في هذا الصدد إنها وجدت الأمر أكثر صعوبة لأنها اعتادت الكثافة والضغط ،وإنها في كتابتها الشعرية تحاول أن تضع أكبر قدر ممكن في أصغر مساحة ممكنة. أما في كتابة النثر فلديها مساحة أكبر بكثير للتحرك فيها، وهو ما سمح لها بنوع مختلف من التأمل. ومع ذلك فكانت تشعر أثناء كتابتها النثرية أنها تتحرك داخل النص كما لو كانت تكتب قصيدة طويلة أو قصيدة طويلة في أقسام أو تسلسل، مثل الطريقة التي تجمع بها كتابًا كاملًا على غرار كتابة “Native Guard” و”Belocq’s Ophelia” على وجه الخصوص، حيث استخدمت الأدلة الوثائقية والرسائل والمذكرات والصور الفوتوغرافية ووضعت في ترتيب معين بحيث يتم سرد القصة ثم تعود مرة أخرى. وقالت إنها على الرغم من أنها كانت تكتب نثرا فإنها أرادت غنائية القصيدة.

أما عن حب تريثيوي للشعر وشغفها به قالت:

“إن أعظم شيء يمكنني فعله هو أن أُذكِّر الناس أنه يمكننا اللجوء إلى الشعر ليس فقط ليذكرنا بأننا لسنا وحيدين عندما نحزن لفقد شخص، بل بإمكانه أن يحتفي معنا بأفراحنا ولهذا فهناك عدد كبير من الذين أعرفهم يقرأون قصيدة في حفلات زفافهم”.

بصمة خاصة

تريثيوي لها بصمة خاصة في كتابتها الشعرية حيث إن تجاربها الأليمة في الحياة أثرت بشكل عميق في موضوعات كتاباتها، كما أن لها نظرة تأملية فلسفية لأمور الحياة المختلفة حتى في الموت، كما أن لديها أسلوبا خاصا في كتابة قصائدها حيث إنها تستخدم السونيته وتكرار البيت الشعري كما ورد في قصيدة “خرافة” وقصيدة “دوران” على سبيل المثال. وهذا الأسلوب في كتابة القصائد لم أره من قبل في أي قصيدة عند أي شاعر آخر.

ومن خلال قراءاتي المتنوعة لشعر تريثيوي وجدت أنها تميل إلى اختزال مشاعرها في كلمات وعبارات قليلة لكنها عميقة وذات دلالة ومعنى. وبالرغم من ازدحام روحها بأفكارها وآلامها وأحداثها الحياتية الأليمة فإنها تفضل اختزال كل تلك المشاعر في كلمات قليلة لكنها معبرة وصادقة تصل إلى قلب القارىء بمنتهى العذوبة؛ فلغة تريثيوي الشعرية مختزلة ومكثفة بامتياز.

كما أن قصائد تريثيوي تخصع للعديد من التأويلات لاستخدامها الرموز والتعبيرات التي تحمل داخلها رسائل مخبوءة تترك القارئ لمخيلته ليفسِّرها بطريقته أو رؤيته الخاصة، ففي قصيدة “خرافة” “Myth” تقرأ كلمات عن الهجر والترك المستمر لها، ولكنها لم تذكر مصدر هذا الهجر: هل هو من حبيب أو من الأهل؟

ومن خلال قراءتي الخاصة لهذه القصيدة وجدت أنها تتحدث عن وفاة أبيها وتركه لها غير المتعمد (وفاته) كأنها تلومه عن تركه و هذا بالطبع غير مؤكد ولكنني اعتمدت هذا التأويل من خلال رؤيتي الخاصة للقصيدة و لكن هناك رؤية أخرى قيلت لي من أحد الأصدقاء بأنها كانت تتحدث عن هجر حبيب لها، لذا فخيال القارىء يلعب دورا كبيرا في فهم القصيدة.

إحدى كتب الشعر لناتاشا تريثيوي

أما في قصيدة “دوران” “Rotation” فتارة تظن أنها تحكي حلمًا عن أبيها وتارة تظن أنها نتاج محض خيال؛ فالشاعر يملك من الخيال الخصب ما يمكنه من السفر بقرائه بعيدا إلى عالم آخر تظن أنه حلمٌ من فرط التخيل.

الشعر لا يُشرح

عندما توحدت مع قصائد تريثيوي تذكرت الروائي بهاء طاهر في إحدى قصصه القصيرة “الخطوبة” قائلًا على لسان أحد أبطاله: “الشعر لا يُشرح يا راجية”. كما أنني تذكرت الشاعر أحمد الشهاوي في أحد لقاءاته عندما قال إن: “الشعر لا يحتاج إلى شرح، فالشعر إذا شُرح فَسد”.

مهما تعددت الثقافات واللغات، فالشعر واحد والفن واحد في جميع الثقافات واللغات. فالشعر روح إنسان متجسدة في كلمات ولا يفرق بين عربي أو أمريكي، أو بين أبيض أو أسود. نجد أن ناتاشا تريثيوي تنتمي إلى تلك المدرسةالشعرية الرمزية التي تميل إلى الكثافة والاختزال والاختصار، أي التعبير عن بركان من المشاعر الإنسانية المختلفة في أقل كلمات ممكنة، وبرغم أنها تميل إلى تكرار بعض الكلمات والعبارات في قصائدها الشعرية، أي أن هذا التكرار من سمات كتابات تريثيوي الشعرية وهذا يمكنه أن يتناقض مع كونها محبة للاختصار والاختزال فإن حبها لسمة التكرار جعلها تُقلل من استخدام كلمات أو أفكار متنوعة في قصائدها، وذلك في سبيل تحقيق التأثير المرجو أو الرسالة المرجوة التي تريد إيصالها من خلال التكرار وليس من خلال استخدام الكثير من الكلمات والأفكار في القصيدة الواحدة الذي قد يؤدي إلى تشتيت القارىء وإبعاده عن فهم مغزى القصيدة.

عندما تقرأ شعر تريثيوي تشعر أنك أمام موهبة شعرية حقيقية حيث قالت مجلة “واشنطن بوست” عنها: “لديها موهبة حقيقة لأشكال الشعر وعمق انخراطها في اللغة يجعلها شاعرة حقيقية”.

ناتاشا تريثيوي تلقي الشعر

انجازات تريثيوي

ناتاشا تريثيوي تعمل أستاذة جامعية وكاتبة وشاعرة وعُينت لفترتين شاعرة في البلاط الأمريكي التاسع عشر ومن أهم أعمالها: “الحرس الوطني” “Native Guard”، والذي حازت عنه جائزة البوليتزر عام ٢٠٠٧، و”الآثار: قصائد جديدة ومختارة” “Monument: Poems New and Selected” عام ٢٠١٨، و”ما بعد كاترينا: تأمل على سطح خليج المسيسيبي” “Beyond Katrina :A Meditation on the Mississippi Gulf Coast” عام ٢٠١٠، و”ميموريال درايڤ” “Memorial Drive” عام ٢٠٢٠.

أما عن الجوائز والأوسمة فقد حصدت العديد من الجوائز الكبيرة في الشعر منها: جائزة هاينز عام ٢٠١٧، وزمالة أكاديمية الشعراء الأمريكيين عام ٢٠١٦، وشاعرة البلاط الأمريكي (٢٠١٢-٢٠١٤)، وامرأة العام في چورچيا عام ٢٠١٨، وجائزة ليليان سميث عام ٢٠٠١ والعديد من الجوائز الأخرى.

وقد استطاعت ناتاشا تريثيوي أن تفرض وجودها الآسر على الساحة الشعرية الأمريكية بامتيازها وفرادتها اللغوية الشعرية، وبرغم ظروف حياتها الصعبة فإنها جعلت منها امرأة ناجحة ذات روح وثّابة استطاعت أن تنجح وتثبت للعالم أن النجاح يمكنه أن يولد من رحم الألم وأن الألم يحفِّز قدرتنا على التعبير والكتابة وأن الكتابة منفذ بحره واسع وعميق قد يحمل الكثير من المعاني والمشاعر المخبوءة في قلوب الناس التي لم تُنطق بعد.

ناتاشا تريثيوي

قصيدة التدبيرُ المنزليُّ (Housekeeping)

شعر: ناتاشا تريثيوي

 

نَحزَنُ على الأَشْيَاءِ المَكسُورةِ،

وأَرْجُلِ الكَرَاسِي المُنتَزَعَةِ من مقَاعِدِهَا،

والأَطبَاقِ المُتَكَسِّرةِ، والمَلابِسِ الرَّثَّةِ

فَنَحنُ نُخْرِجُ السِّحرَ مِن الصَّمغِ

نَدَقُّ المَسَامِيرَ  نُصّلِحُ الثُّقُوبَ.

 نَحّفَظُ ما في وِسعِنَا

 نُذِيبُ قِطَعًا صَغِيرةً من الصَّابُونِ

 نُلمْلمُ حبَّاتِ البَقَّانِ المُتَسَاقِطَةِ

 نَحتَفِظُ بِعِظَامِ الرَّقَبَةِ للحِسَاءِ.

نَخْبَطُ السَّجَّادَ قُبَالة المَنزِلِ

نُشَاهِدُ الغُبَارَ مُضَاءً كَالنُّجُومِ

يَنْتَشَرُ عَبرَ الفِنَاءِ.

في وقتِ مُتَأَخِّرٍ بَعد الظُّهْرِ 

نَرْسُمُ السَّتَائِرَ لِنُبَرِّدَ الغُرَفَ

لنَطْرُدَ الحَشَرَاتِ في الخَارِجِ.

أُمّي تَكوِي وتُغَنِّي،

تَضِيِعُ في أحْلاَمِ اليَقَظَةِ.

أضِعُ عَلاَمَةً على صَفَحَاتِ كَتَالُوُجٍ بالبَرِيِدِ

 أستَمِعُ إلى السيَّارَاتِ المَارَّةِ.

طَوَال اليَوم، نُرَاقِبُ البَرِيدَ

وبعضَ أخْبَارٍ من مَكَانٍ بَعِيدٍ.

English professor Natasha Trethewey was named the 19th U.S. poet laureate .

عن د. سارة حامد حواس

مترجمة، مدرس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة، تخرجت في الكلية نفسها بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وحصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغويات التطبيقية. حصلت على عديد من الدورات التدريبية، وشاركت في كثير من المؤتمرات العلمية الجامعية. ولها أبحاث في التخصص منشورة في عدد من المجلات المصرية والأجنبية. وهي منسقة البرنامج التخصصي للغة الإنجليزية والترجمة بكلية الآداب جامعة المنصورة، ومنسقة الكلية لدى نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *