أحدث الحكايا
ما هو التاريخ؟

د. محمد عفيفي يحكي: حكاية التاريخ (1)

ما هو التاريخ؟ قد يبدو السؤال ساذجًا بعض الشيء، لأن الإجابة البسيطة على هذا السؤال هي أن التاريخ هو الماضي. وتعتبر هذه الإجابة صحيحة في مجملها إلى حد كبير، لكننا سنكتشف بعد قليل أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، وأن الإجابات السهلة والبسيطة ليست دائمًا هي الإجابات الوافية.

بالقطع التاريخ هو الماضي، هكذا تعلمنا، لكن تطور الدراسات التاريخية وصل بنا إلى أن التاريخ ليس هو الماضي فحسب، بل هو الحاضر أيضًا؛ حيث ظهر فرع جديد في الدراسات التاريخية هو “تاريخ الحاضر” أو “التاريخ الجاري”، والأكثر إثارة ظهور فرع جديد يسمى “تاريخ المستقبل”. وربما تتاح لنا الفرصة في حكاياتٍ قادمة للحديث عن هذا التطور المهم والخطير في ميدان الدراسات التاريخية.

قسما التاريخ

عودة مرة أخرى إلى المقولة السائدة أن التاريخ هو علم الماضي، لنكتشف بعد قليل أن هذا الماضي ينقسم في حقيقة الأمر إلى قسمين كبيرين -وفقًا للدراسات الأكاديمية-: القسم الأول يُعرف بـ”ما قبل التاريخ”، والقسم الآخر يُعرف بـ”التاريخ”! فما هي حكاية ما قبل التاريخ، وحكاية التاريخ؟

رسوم لإنسان ما قبل التاريخ

 

في الحقيقة اعتاد المؤرخون على تقسيم الماضي إلى عصور ما قبل التاريخ، وعصور التاريخ، وفقًا لمعرفة الإنسان الكتابة، وتركه لمدونات يُعرف منها وبها الأحداث التاريخية. وعلى هذا النحو ففترة ما قبل معرفة الإنسان بالكتابة هي عصور ما قبل التاريخ، يُستدَل على أحداثها وتطورها مما تركه الإنسان من أدوات يستخدمها في حياته اليومية، فمثلاً عندما كان يستخدم الإنسان الحجر في صناعة أدواته، يُسمى ذلك العصر بالعصر الحجري، وعندما تطور عقل الإنسان وقدراته وبدأ يستخدم معدن الحديد في صناعة أدواته فهذا هو العصر الحديدي، ومع تطور أكبر في قدرات الإنسان وعقله المبتكر يدخل الإنسان في عصر البرونز، وهكذا يُستدَل على تطور الإنسان من خلال نوعية وقدرات صناعة أدواته الحياتية.

“كان لهذه الشعوب الأفريقية حضارة وتاريخ، من خلال الحكايات الشفاهية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وهنا يظهر لنا ما يُعرف بالتاريخ الشفاهي”

الكتابة

أما العصور التاريخية فكما أوضحنا ترتبط بداياتها بمعرفة الإنسان الكتابة. وهناك العديد من أوجه النقد توجه إلى هذا المفهوم المعتمد لبداية التاريخ؛ إذ يرى البعض أن التاريخ في حقيقة أمره وجوهره هو تاريخ الإنسان، والإنسان موجود قبل معرفته الكتابة، وبعد الكتابة، فكيف تصبح معرفة الإنسان للكتابة هي معيار بداية التاريخ؟ ويستند هؤلاء إلى أن معرفة الإنسان الكتابة تختلف من بقعة إلى بقعة، بل ومن قارة إلى قارة؛ فعلى سبيل المثال إذا أخذنا معرفة الإنسان للكتابة هي معيار بداية التاريخ في بلد أو في منطقةٍ ما، فعلى هذا النحو نحن نسير مع الدراسات الاستعمارية التي ترى أن بداية التاريخ في أفريقيا السوداء، أفريقيا جنوب الصحراء، تبدأ في القرن التاسع عشر، مع وصول الرجل الأبيض إلى هناك، وبدايته لتعليم الأفارقة الكتابة!

آثار حضارة إفريقية قديمة

 

ويوجه الكثير من الباحثين سهام النقد إلى هذه القراءة القاصرة والمُغرِضة، لأنها في الحقيقة تتجاهل تاريخ أفريقيا قبل الاستعمار، وتتجاهل أنه كان لهذه الشعوب الأفريقية حضارة وتاريخ، من خلال الحكايات الشفاهية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وهنا يظهر لنا ما يُعرف بالتاريخ الشفاهي، وهو أحد فروع التاريخ، تأثر بشدة بانفتاح علم التاريخ على علميّ الأنثروبولوجيا والفلكلور.

 

الكتابة الهيروغليفية

 

كما يرى البعض أن معرفة الإنسان الكتابة كانت مبكرة جدًا في مصر القديمة وبلاد الرافدين (العراق)، بينما كان وسط أوروبا وشمالها وغربها لم يتعرف بعد على الكتابة. من هنا يظهر تضارب البدايات التاريخية على مستوى العالم، إذا أخذنا بمعيار بداية المعرفة بالكتابة.

الكتابة القديمة في بلاد الرافدين

التحقيب

ومع ظهور الجامعات في العصر الحديث، ونشأة أقسام التاريخ بها، اكتشف علماء التاريخ أن التاريخ يمتد على فترات زمنية قد تصل إلى آلاف السنوات في بعض البلدان، مما يُصَعِب من عملية الدراسة والبحث، من هنا نشأ ما يُعرف بـ”التحقيب” أي تقسيم التاريخ إلى عصور، من أجل تسهيل عملية البحث والدراسة، ونشأة متخصصين في كل عصر، وهكذا نشأ التقسيم التقليدي للتاريخ إلى: العصر القديم، العصر الوسيط، العصر الحديث. ثم ظهر بعد ذلك التاريخ المعاصر، وسنتناول في المقالات القادمة كل عصر من هذه العصور والمشاكل الخاصة به لا سيما من حيث البدايات والنهايات وأهم الأحداث به.

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *