أحدث الحكايا

د. زين عبد الهادي يحكي: ماذا لو كنا نعيش داخل لعبة فيديو؟

ربما يكون البحث في الفيزياء والفلسفة أمرا غير مستحب من قبل كثير من القراء، ولكن انضمام الفلسفة إلى الفيزياء في بعض الجامعات كما في السوربون منذ أكثر من عقد من الزمن عمل على إثراء البحث العلمي في المجالين، وأصبحت هذه المزاوجة بين العلمين مصدرا لكثير من التأملات الجديدة في الكون والإنسانية على حد سواء.

كما يمكن القول بأن شهرزاد في حكاياتها تقدم تفسيرات لنوع من الحياة يرتكز على فلسفة ذات طابع رواقي يعتمد التأمل والاستبطان، إضافة إلى أن الحكايات نفسها تحمل هذا الجانب من التأمل الفلسفي لقيمة الحياة نفسها، وهو ما يدفعنا حين قراءة الليالي الألف إلى أن نغوص فيها إلى درجة التوحد معها، وهذا المقال يشبه هذه القضية بشكل متطابق، ويبرز السؤال أحيانا حين نقرأ ألف ليلة وليلة، هل حقا أصبحنا جزءا من الحكاية، نبكي ونضحك مع أبطالها ونتخيل أنفسنا معهم، وفي درجة أعمق نصل إلى التماهي مع شهرزاد ونتساءل هل نحن جزء من الحكاية أم أن الحكاية جزء مما نعيشه؟

صورة تعبيرية- فيزياء وفلسفة

 

هذا بالضبط ما يتناوله هذا المقال ولكن في القرن الواحد والعشرين، وهو موجه بالأساس إلى محبي الفيزياء والفلسفة والعلوم.. مثلا هل تساءلت شهرزاد يوما عن أننا ربما نعيش داخل لعبة فيديو وعلاقة ذلك بالكون؟ إليكم أسئلة أخرى داخل هذا المقال.

ماذا لو كنا نعيش داخل لعبة فيديو؟

توقف عن التساؤل عما إذا كان الكون عبارة عن محاكاة حاسوبية، فلن نعرف أبدًا ما إذا كنا نعيش في محاكاة حاسوبية؛ هنا سؤال أكثر إثارة للاهتمام!

إن فكرة أننا نعيش كشخصيات في لعبة فيديو خاصة بشخص آخر لا يمكن مقاومتها بالنسبة للكثيرين، حتى خارج أرفف كتب الخيال العلمي. يؤدي البحث في جوجل عن مصطلح “فرضية المحاكاة” إلى ظهور العديد من النتائج التي تناقش ما إذا كان الكون عبارة عن محاكاة حاسوبية أم لا، وهو مفهوم يأخذه بعض العلماء على محمل الجد. منذ المناقشة المحورية التي جرت عام 2016 في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، انتقلت الفكرة من المجال العلمي إلى مجال الثقافة الشعبية.

فرضية المحاكاة- صورة تعبيرية

 

لسوء الحظ، هذا ليس سؤالا علميا. ولا توجد طريقة موضوعية لاختباره. ربما لن نعرف أبدًا ما إذا كان هذا صحيحًا أم لا، ومن خلال التركيز كثيرًا على هذه الفرضية، فإننا نضيع الوقت. يمكننا، بدلاً من ذلك، استخدام هذه الفكرة لتعزيز المعرفة العلمية.

قال الفيلسوف إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر إن الكون يتكون في النهاية من أشياء في ذاتها لا يمكن معرفتها. وبينما كان يؤمن بفكرة وجود الواقع الموضوعي، قال إن عقلنا يلعب دورًا ضروريًا في هيكلة وتشكيل تصوراتنا. كان كانط متقدما على عصره ولكن لا يمكن إنكار نظرته الثاقبة. لقد كشف علم الأعصاب الحديث والعلوم المعرفية أن تجربتنا الإدراكية للعالم هي نتيجة لمراحل عديدة من المعالجة بواسطة الأجهزة الحسية والوظائف المعرفية في الدماغ. لا أحد يعرف بالضبط ما يحدث داخل هذا الصندوق الأسود. ما نعرفه هو أن عمليات الدماغ هذه تولد كمية هائلة من المعلومات الإضافية تتجاوز ما تدركه حواسنا. خذ الرؤية، على سبيل المثال؛ شبكية العين لدينا عبارة عن سطحين مستويين يستقبلان معلومات ثنائية الأبعاد فقط، لكن وظائفنا المعرفية تضيف البعد الثالث إلى تجربتنا الإدراكية.

الفيلسوف إيمانويل كانط

 

إذا فشلت التجربة التجريبية في الكشف عن الواقع، فإن الاستدلال لن يكشف عن الواقع أيضًا لأنه يعتمد على مفاهيم وكلمات تتوقف على تاريخنا الاجتماعي والثقافي والنفسي. مرة أخرى، صندوق أسود.

لذا، إذا قبلنا أن الكون لا يمكن معرفته، فإننا نقبل أيضًا أننا لن نعرف أبدًا ما إذا كنا نعيش في محاكاة حاسوبية. وبعد ذلك، يمكننا تحويل استفسارنا من “هل الكون محاكاة حاسوبية؟” إلى “هل يمكننا نمذجة الكون كمحاكاة حاسوبية؟” هذان سؤالان مختلفان للغاية. الأول يحصرنا في التكهنات؛ وهذا الأخير يضعنا على الطريق الصحيح للقيام بالعلم.

إن نمذجة الواقع هو ما يقوم به العلماء. لتسهيل فهمنا للعالم، نقوم ببناء نماذج مبنية على استعارات مفاهيمية مألوفة لنا. في عصر نيوتن تخيلنا الكون كساعة. في آينشتاين، اكتشفنا النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.

النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات

 

الآن ونحن في عصر المعلومات، لدينا مفاهيم جديدة متاحة لنا، مثل الكمبيوتر ومعالجة المعلومات والواقع الافتراضي والمحاكاة. ومن غير المستغرب أن تلهمنا هذه النماذج الجديدة لبناء نماذج جديدة للكون. لبناء واحدة بناءً على استعارة محاكاة الكمبيوتر، نحتاج إلى معالجة بعض الأسئلة الأساسية مثل “أين يوجد الكمبيوتر؟” و”مما هو مصنوع؟”

في عالم تم تصميمه كحساب، يجب أن يكون الكمبيوتر الذي يعرض الفضاء ومحتوياته خارج الفضاء. لإحراز تقدم في بناء مثل هذا النموذج، يتمثل أحد الخيارات في وضع الكمبيوتر داخل ثقب أسود. ومع ذلك، بمجرد دخول شيء ما إلى الثقب الأسود، فإنه ينقطع فعليًا عن ملاحظتنا. لا يمكن لجهاز كمبيوتر هناك أن يخرج ويؤثر على عالمنا.

والخيار الآخر هو وضع الكمبيوتر في عالم موازٍ، وهو ما وضع بعض العلماء نظريات حول وجوده. لكن من المفترض أن يكون كل كون موازٍ مستقلاً؛ مهما حدث (بما في ذلك تشغيل جهاز كمبيوتر) في مكان آخر لا يمكن أن يؤثر علينا.

يبدو أن “المكان” الأكثر وضوحًا هو عالم النماذج الأفلاطوني. ووفقا لأفلاطون، فإن الواقع الذي نراه هو مجرد ظل لهذا العالم، حيث توجد كيانات مجردة مثل الأرقام والأشكال الهندسية المثالية وغيرها من المفاهيم المجردة.

أفلاطون

 

الأرقام، على سبيل المثال، ليست في الفضاء -لم يركل أحد الرقم اثنين أو يصطدم بالرقم ثلاثة- ومع ذلك فإننا نتعامل مع الأرقام طوال الوقت؛ نعد معهم، ونقيس معهم، ونصيغ معهم النظريات العلمية. لن يكون لدينا رياضيات بدون أرقام، ولن يكون لدينا فيزياء بدون رياضيات. يعتقد العديد من علماء الرياضيات المحترفين البارزين أن الأرقام لها وجود موضوعي في عالم الأشكال.

ومن خلال تحديد موقع الأرقام في عالم النماذج، يُعطى حجر الأساس للفيزياء حقيقة موضوعية مستقلة عن العقل البشري. وبالمثل، من خلال تحديد موقع جهاز كمبيوتر في عالم النماذج، يصبح لدينا أساس فلسفي لبناء نموذج قائم على الاستعارة لمحاكاة الكمبيوتر. من الواقع.

لكن النماذج ليست حقيقة. ليس هناك أي جدوى من الجدال حول ما إذا كان الكون عبارة عن ساعة، أو مجموعة من الجسيمات، أو مخرجات حسابية. كل هذه النماذج هي أدوات يجب نشرها للتعامل مع المجهول وتحقيق الاكتشافات. وكلما زادت الأدوات التي لدينا، كلما أصبحنا أكثر فعالية وبصيرة.

ويمكن تصور أنه بالمقارنة مع عملية بناء النماذج العلمية السابقة، فإن تطوير نموذج “المحاكاة الحاسوبية” القائم على الاستعارة سيكون أيضًا تمرينًا مجزيًا للغاية. سيوفر النموذج الجديد عدسة جديدة سيتم من خلالها تحقيق اكتشافات جديدة حول الكون. سوف نقوم بتوسيع آفاقنا بشكل كبير وتوسيع نطاق البحث العلمي. وهذا أكثر إرضاءً بكثير من قضاء اليوم في التساؤل عما إذا كنت محاصرًا في نسخة من لعبة The Sims.

————-

المقال بقلم سيمون دوان – ترجمة د. زين عبد الهادي
هذا مقال مترجم، والآراء التي عبّر عنها المؤلف أو المؤلفون ليست بالضرورة آراء منصة “شهرزاد”.

عن د. زين عبد الهادي

باحث وروائي مصري، نشر له العديد من الأعمال العلمية والإبداعية، أستاذ علم المكتبات والمعلومات جامعة حلوان، المشرف العام على مكتبة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، رئيس تحرير مجلة عالم الكتاب التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وزارة الثقافة (سابقا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *