حكينا في الحلقات الثلاث الماضية حكاية التاريخ، تعرفنا بداية على ما هو التاريخ، ثم عن التاريخ القديم وتاريخ العصور الوسطى، وكيف كانت المركزية الأوروبية صاحبة التأثير الأكبر في تقسيم التاريخ إلى هذه الحقب.. واستكمالا للحكاية نتعرف في هذه الحلقة على التاريخ الحديث.
تعتبر فترة التاريخ الحديث من أهم الفترات التاريخية نظرًا لكم المتغيرات التي حدثت في هذا العصر، وأيضًا سرعة الأحداث، نتيجة للمتغيرات العلمية، هذا فضلاً عن بدايات وسائل المواصلات والتواصل بين شتى أنحاء العالم، مما سيؤدي إلى حركة الاستعمار، ثم العولمة بعد ذلك.
وترتبط بداية هذا العصر بنهايات العصور الوسطى وبداية الحداثة، والمتغيرات الفكرية والدينية والاقتصادية، وبالتالي السياسية التي ترتبت على ذلك. وهنا نعود مرة أخرى إلى مسألة نسبية “التحقيب”، كذلك إلى مركزية النظرة الأوروبية دائمًا في هذا الشأن، نظرًا لأن المراكز الأكاديمية الأوروبية هي من وضعت أصول هذا التحقيب دون الالتفات كثيرًا إلى مجريات التاريخ خارج أوروبا، فالتاريخ لديهم هو التاريخ الأوروبي ومدى انعكاسه على خارج أوروبا.
هذا الصراع الطويل بين البرجوازية والإقطاع لا نستطيع أن نضع له تاريخًا محددًا أو سنة معينة، لأنه عملية تحول كبرى في رحم التاريخ الأوروبي عبر العديد من العقود.
مدرسة التفسير المادي للتاريخ
وسنبدأ بما يعرف بمدرسة التفسير المادي للتاريخ، والتي تفسر التاريخ وفقًا لعوامل مادية يلعب الاقتصاد فيها الدور المهم، وهذه المدرسة بالمناسبة مدرسة أوروبية، متأثرة بالماركسية وأفكار ماركس وأنجلز وحواريهم. ووفقًا لهذه المدرسة تأتي مسألة نهاية النظام الإقطاعي في أوروبا، وازدهار المدن ودور طبقة “البرجوازية” سكان المدن، والتي يحلو للبعض ترجمتها إلى اللغة العربية “الطبقة الوسطى”، بداية طبيعية للعصر الحديث.
وتبدأ حركة انهيار النظام الإقطاعي الأوروبي، وصعود البرجوازية، بعد انتهاء الحروب الصليبية، وعودة أمراء الإقطاع من الشرق، وازدهار التجارة، وتلاشي قيم وتقاليد الإقطاعية لصالح قيم أخلاق المدينة. وهذا الصراع الطويل بين البرجوازية والإقطاع لا نستطيع أن نضع له تاريخًا محددًا أو سنة معينة، لأنه عملية تحول كبرى في رحم التاريخ الأوروبي عبر العديد من العقود.
اكتشاف الأمريكتين
لكن مسألة بداية التاريخ الحديث بمسألة الصراع بين الإقطاع والبرجوازية، هي مجرد مقترح من عدة مقترحات للبداية الافتراضية للتاريخ الحديث؛ إذ يقترح البعض بداية أخرى، محددة التاريخ وهي اكتشاف الأمريكتين في عام 1492 على يد كريستوفر كولمبس. ويشير أصحاب هذا الاتجاه إلى المتغيرات التي حدثت في أوروبا، وجلب الذهب والفضة من أمريكا إلى أوروبا، فضلاً عن الهجرات الأوروبية، ثم جلب “العبيد” الأفارقة إلى أمريكا، وأن اكتشاف قارتين هو حدث كبير على المستوى العالمي.
ويرد البعض على ذلك بأن مصطلح “اكتشاف أمريكا” هو مصطلح يعبر بدقة عن المركزية الأوروبية، فأمريكا موجودة من قبل، وهناك سكان أصليون لها، وهم الذين أطلقت عليهم أوروبا “الهنود الحمر”، إذًا الاكتشاف هو فقط يعبر عن “تعرف” أوروبا على أمريكا أو في الحقيقة “استعمار” أمريكا. ويطرح البعض التساؤل بأن “اكتشاف” أو “استعمار” أمريكا هو حدث أوروبي، لم تكن له تداعيات آنذاك على أجزاء أخرى من التاريخ العالمي، لا سيما في آسيا.
سقوط القسطنطينية
ويطرح البعض تاريخًا آخر لبداية التاريخ الحديث وهو سقوط القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية على يد الأتراك العثمانيين في عام 1453. وبالقطع يرجع ذلك إلى الرمزية التاريخية للقسطنطينية كعاصمة للمسيحية الشرقية، لكن المؤرخين الأوروبيين يركزون أكثر على مسألة هروب الرهبان البيزنطيين بعد سقوط القسطنطينية إلى إيطاليا، مصطحبين معهم مجموعات هائلة من المخطوطات اليونانية القديمة، وأن هذا الحدث سيترتب عليه بدايات عصر النهضة في إيطاليا، نتيجة حركة ترجمة هذه المخطوطات، وبناء أوروبا نهضتها الجديدة على أساس تراثها اليوناني “العقلاني”. ومرة أخرى نجد مركزية النظرة الأوروبية.
ويقدم البعض الآخر عام 1454م، وهو عام ظهور مطبعة جوتنبرج، وبدايات الكتاب المطبوع، هذا الكتاب الذي سيسمح بسرعة انتشار الأفكار، عبر انتشار الكتب، بعدما كان العلم محصورًا في “المخطوطات” وبالتالي في نخبة قليلة، وظهور ما يمكن أن نطلق عليه ديمقراطية الثقافة.
ويقترح البعض عام 1517م بداية للتاريخ الحديث مع حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، وبدايات ظهور مذهب ديني جديد هو البروتستانتية، وبالتالي ضعف الكنيسة الكاثوليكية، والمتغيرات السياسية والاقتصادية الحادة التي عرفتها أوروبا مع الإصلاح الديني.
هكذا نعود من جديد إلى مسألة النسبية في التاريخ، سواء بالنسبة للتاريخ الأوروبي أو حتى بالنسبة لتاريخنا المصري والعربي، وأن عملية التحقيب هي اجتهاد بشري
عصر مصر الحديث
لكن ماذا لو حاولنا أن نطبق هذه الاقتراحات والأحداث على تاريخ الشرق العربي، وخاصةً مصر؟ لن نجد تأثيرًا يذكر لها على مجريات التاريخ المصري. لذلك حاول البعض الاجتهاد في هذا الأمر، وتقديم مقترح يتسق مع مجريات التاريخ المحلي. ورأى البعض أن عام 1517م، ودخول العثمانيين إلى المشرق العربي هو بداية التاريخ الحديث للمنطقة ولمصر أيضًا؛ حيث استمرت المنطقة تحت الحكم العثماني عدة قرون، ربما حتى الحرب العالمية الأولى.
لكن البعض يرد على ذلك متسائلاً: وماذا قدمت الدولة العثمانية للمنطقة العربية، لا سيما فيما يتعلق بالحداثة؟ ويطرح هؤلاء عام 1798م، ومجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، وبلاد الشام، كبداية منطقية للتاريخ الحديث للمنطقة على أساس أنها بداية تعرف الشرق على الغرب من جديد، وبداية التحديث في الشرق العربي.
ويرد البعض على ذلك برفض هذا المقترح ويتساءل: كيف نبدأ تاريخنا الحديث بحركة استعمارية؟ فلم تكن الحملة الفرنسية حركة تنوير كما يحلو للبعض تصويرها والترويج لهذه الرؤية، بل هي بداية الاستعمار الأوروبي للمنطقة كلها.
ويقترح هؤلاء، وخاصةً في مصر، وصول محمد عليّ إلى الحكم في عام 1805م بداية طبيعية للتاريخ الحديث، ويرى هؤلاء أن محمد عليّ هو مؤسس الدولة الحديثة في مصر، وأن ابنه إبراهيم باشا أحدث معطيات مهمة في تاريخ بلاد الشام.
هكذا نعود من جديد إلى مسألة النسبية في التاريخ، سواء بالنسبة للتاريخ الأوروبي أو حتى بالنسبة لتاريخنا المصري والعربي، وأن عملية التحقيب هي اجتهاد بشري، محمل أحيانًا كثيرة بالانحيازات الأيديولوجية، وأن انسياب مجرى التاريخ عابر لكل هذه المحاولات من أجل التحقيب.