أحدث الحكايا

د. محمد عفيفي يحكي حكاية التاريخ (5): التاريخ المعاصر ابن الحرب العظمى

مر بنا في الحكايات السابقة كيف قام المؤرخون -وخاصةً في أوروبا- بمحاولة تحقيب التاريخ، أي تقسيمه لفترات زمنية، من أجل تسهيل عملية دراسة ومعالجة التاريخ، وأيضًا لتدشين تخصصات أكاديمية في دوائر البحث التاريخي.

من هنا جاء هذا التقسيم التقليدي على هذا النحو: عصور ما قبل التاريخ، التاريخ القديم، تاريخ العصور الوسطى، التاريخ الحديث. ورأينا مدى النسبية الشديدة لهذه التقسيمات، فضلاً عن المركزية الأوروبية الشديدة التي حكمت هذا التحقيب، وكأن تاريخ العالم هو التاريخ الأوروبي، بالإضافة إلى مشاكل البدايات والنهايات لكل عصر.

تدفق التاريخ

والحق أن حركة التاريخ هي أشبه بمجرى النهر، حركة متدفقة، فلا يتوقف التاريخ ليعلن أن اليوم هو نهاية العصور الوسطى، وبداية التاريخ الحديث، وإنما الأمر كله محض اجتهاد إنساني. من هنا ستظهر مشكلة كبرى هي “ما بعد التاريخ الحديث”، فكما قلنا من قبل حركة التاريخ في جريان دائم، وبالتالي اكتشف الإنسان أن التاريخ الحديث يمتد ليشمل مئات السنين، وهي من أهم تواريخ البشرية، نظرًا لكم الاكتشافات العلمية، وعلى رأسها الثورة الصناعية، فضلاً عن تطور الفكر الإنساني، وظهور مفهوم الدولة القومية، أضف إلى ذلك حركة الاستعمار. لكن الأخطر من كل ذلك -وإن كان بالقطع نتيجة له- التطور الهائل في مجال نوعية السلاح الحربي، وما ترتب عليه من سباق التسلح.

عاملات بأحد مصانع السلاح في كندا عام 1944

الحرب العظمى

وستدفع كل هذه العوامل السابقة العالم نحو حدثٍ فريد في تاريخ البشرية، وهو ما وقع في عام 1914، واستمر حتى عام 1918، وهو الحدث المعروف لدينا جميعًا الآن بالحرب العالمية الأولى؛ إذ لأول مرة في التاريخ يجد العالم نفسه يدخل حربًا شاملة، تمتد عبر -على الأقل- قارات العالم القديم، وإن شارك فيها كل العالم تقريبًا. وربما يدهش القارئ الكريم عندما يعرف أن المصطلح الذي أُطلِق على هذه الحرب في البداية لم يكن “الحرب العالمية الأولى” بل أطلق العالم على هذه الحرب مصطلحًا مهمًا ودالاً في زمانه وهو “الحرب العظمى” في إشارة لهول ما حدث آنذاك حيث وجد العالم نفسه في أتون حرب لم يعرف لها مثيلاً من قبل نتيجة تطور وسائل المواصلات، والتطور الرهيب في التسليح، علاوةً على حركة الاستعمار؛ إذ لم تقتصر الحرب على صراع الدول الأوروبية مع بعضها البعض، وإنما امتدت إلى مستعمراتها في آسيا وأفريقيا.

من هنا أطلق العالم على هذه الحرب “الحرب العظمى”، ولم يكن يدور بخلده بعد انتهاء الحرب أن العالم سيكرر هذا الجنون من جديد ويدخل حربًا جديدة على هذا النحو، لذلك مع وقوع الحرب من جديد في عام 1939، أعاد العالم تسمية الحرب الأولى إلى “الحرب العالمية الأولى”، وأطلق على الثانية “الحرب العالمية الثانية”، ولا يزال العالم حتى الآن ينتظر وقوع “الحرب العالمية الثالثة”!

الحرب العالمية الأولى

على أية حال كانت صدمة الحرب العالمية الأولى قوية بالنسبة للعالم، لدرجة أنه أدرك أنه لا بُد من إعادة كتابة التاريخ من جديد؛ إذ ظهرت فكرة “المعاصرة” لتعبر عن جيل أو جيلين شهدا أحداثًا خطيرة لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل.

وعلى هذا بدأ المؤرخون في طرح فكرة “التاريخ المعاصر” منذ الحرب العالمية الأولى، هذه الفكرة التي ستتأكد مع حدوث الحرب العالمية الثانية، ففي خلال جيل واحد شهد العالم أعظم وأخطر أحداثه وهما الحربان العالميتان.

الحرب العالمية الثانية

التاريخ المعاصر

بالقطع أثرت الحرب العالمية الأولى على معظم دول العالم، حتى خارج أوروبا، ولأول مرة نجد بداية منطقية لعصر من العصور التاريخية، حيث يذهب غالبية المؤرخين إلى اعتبار الحرب العالمية الأولى بداية التاريخ المعاصر. لكن بعض المؤرخين الذين ينتمون إلى المدرسة الوطنية -لا سيما في دول العالم الثالث- ترفض اعتبار حدث خارجي، بل وحرب استعمارية، بداية لتاريخها المعاصر.

ويظهر ذلك جليًا في حالة التاريخ المصري؛ إذ يذهب بعض المؤرخين إلى عدم تحبيذ بداية التاريخ المعاصر لمصر بالحرب العالمية الأولى، ويفضلون بداية وطنية له، ويذهبون إلى اختيار ثورة 1919 بداية وطنية ومنطقية لتاريخ مصر المعاصر، نظرًا للمتغيرات المهمة التي طرأت على مصر في أعقاب الثورة.

الزعيم سعد زغلول قائد ثورة 1919 في مصر
ثورة 1919

تاريخ الحاضر

وكما رأينا من قبل فإن مشاكل التحقيب لا تقتصر على بدايات الفترات التاريخية، وإنما تتركز أحيانًا على النهايات. وبالنسبة للتاريخ المعاصر اكتشف الإنسان أن حركة التاريخ تستمر، واستطاع البشر -إلى حد كبير- تجنب كابوس الحرب العالمية الثالثة، وبالتالي أصبحت فكرة التاريخ المعاصر، التي تقوم أساسًا على التأريخ لجيل أو لجيلين، تتراجع إلى حدٍ كبير، وأصبح من الصعب تقبل فكرة أن التاريخ المعاصر يمتد ليغطي مساحة زمنية تصل إلى أكثر من مائة عام. من هنا سيبدأ المؤرخون في إعادة النظر في مسألة التحقيب التقليدي للتاريخ، بل وتجاوز الفكرة التقليدية حول أن التاريخ علم الماضي، وهو ما سيطرح على مائدة البحث التاريخي فكرة جديدة وغير تقليدية مع ظهور تخصص جديد، لعصر مختلف هو “تاريخ الحاضر”!

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

تعليق واحد

  1. شىء جميل أن نتعلم عن أصل التاريخ وأساسيات وان نعيش اعماق التاريخ لنستطيع أن نعيش المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *