أحدث الحكايا
لقطتان من Black Mirror وIt

رامي المتولي يحكي: Black Mirror.. رعب أكثر من هذا سوف يجيء

أشترك مع ملايين البشر في الابتعاد عن ما يخيفني، لذلك أبتعد عن مشاهدة أعمال الرعب، بالذات التي تنتمى للدرجة الثانية (B-Movies) ببنائها الهادف إلى بث الرعب في قلوب المشاهدين بزيادة التوتر والترقب لظهور وحش يملك قوة أكبر من قدرة أي بشري على التعامل معها.

التفنن في خلق أصوات مرعبة ومزعجة يثير في نفسي غصة وفي قلبي انقباضا، ما يجعلني أتساءل عن جدوى مشاهدة العمل الفني المصنوع بهذه الطريقة من الأساس، لا أجد أي متعة في مشاهدة فيلم يضم مشاهد تتصاعد في حدتها لأشعر بالخوف من كيان خارق أو مريض نفسي يقتل بلا هوادة لدرجة قد تثير الضحك بعد الشعور بالخوف والتساؤل عن سبب الخوف مع المعرفة الكاملة لاستحالة حدوث ذلك.

رعب من الطفولة

أتذكر السنوات الأخيرة فى فترة الطفولة قبل الدخول فى المراهقة والتى كنت أتجنب فيها تمامًا السير بجوار البالوعات فى الشارع، والسبب هو الفيلم التليفزيوني “IT” (الشيء) المعتمد على رواية الكاتب الأمريكي ستيفن كينج، والذى كان الكائن الخرافى فيه يسكن فى المجارير، ويتجسد فى صورة مهرج ليتمكن من جذب الأطفال ليتغذى عليهم، وهو ما ولد لدي نفورا من المهرج أيضًا، ولا أجده إلى الآن مادة مضحكة.

الفيلم التلفزيوني IT عام 1990
الفيلم التلفزيوني IT عام 1990

نفس الشيء لازمنى فى فترة المراهقة بعد مشاهدة عدة أجزاء من سلسلة أفلام “A Nightmare on Elm Street”، لم يكن خوفًا بالشكل التقليدى لكنه كان نفورًا من هذه النوعية من الأفلام. الغريب أنه فى المقابل نمى لدي اهتمام بمشاهدة أفلام تنتمى لنوعية أخرى من الرعب وهي المعتمدة على روايات ستيفن كينج وكتابات إدجار الآن بو، والتى كانت تثير فى نفسي رعبًا من نوع آخر مرتبط بالوجود الإنسانى وتفاعل البشر مع القوى التى تفوقهم فى القدرة، ولا يملكون أمامها أي وسائل للمقاومة.

A Nightmare on Elm
A Nightmare on Elm

أكثر الأعمال المرعبة أهمية

جمهور أعمال الدرجة الثانية ليس كبيرًا في حال مقارنته بنظيره من هواة أعمال الرعب من الدرجه الأولى التي يهتم صناعها أكثر بالعناصر الفنية وجودتها وارتباطها بالعمل، إلى جانب وجود بُعد فلسفي فيما يقدم يرتبط بشكل مباشر مع وجود البشر وحياتهم، مما يصدر شعورا أكثر بالخوف ويدفع المتفرج للتفاعل والاشتباك مع الأفكار المطروحة في الأعمال من هذا النوع، لا يكون نابعا من الخوف من كيان أو شخص غير طبيعيين قدر ما يكون الخوف من الواقعية وتخيل أن ما نراه على الشاشة كبيرة أو صغيرة قد يحدث خلال مدة قصيرة أو بالفعل يحدث الآن.

لهذا يعد مسلسل “Black Mirror” بمواسمه الـ6 من أكثر الأعمال المرعبة أهمية التى ظهرت فى الفترة الأخيرة.

مشهد من Black Mirror

فى الحلقة الثانية من الموسم الثالث لبرنامج “الدحيح” والتي تحمل عنوان “فيلم رعب” يحلل مقدمه أحمد الغندور علاقة فنون الرعب باللاوعي، وعبر عن ذلك بمصطلح “عودة المكبوت للسطح”، وأن مؤلف فنون الرعب يقف على بوابة اللاوعي، وهو نوع الفنون الوحيد الذى يُكتب بالخوف، وربط بين فيلمين مهمين في تاريخ السينما بالواقع، أولهما فيلم “The Cabinet of Dr. Caligari” عام 1920، والذى يعد انعكاسا لرغبة الشعب الألماني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى في قائد يسلمونه مقاليد الحكم ويقودهم للنصر، وكذلك فيلم “Frankenstein” عام 1931 الذى يعد انعكاسا لمخاوف فترة الكساد العظيم بكل ثقل تردي أوضاعها الاقتصادية.

فيلم "The Cabinet of Dr. Caligari" عام 1920
فيلم “The Cabinet of Dr. Caligari” عام 1920
فيلم "Frankenstein" عام 1931
فيلم “Frankenstein” عام 1931

هذا هو الرعب

على القياس نفسه يأتي مسلسل “Black Mirror” بحلقته الأولى التي صدم موضوعها المشاهدين في أواخر عام 2011، وقتها كان المسلسل بريطانيًا يبث عبر القناة الرابعة، والتي كان موضوعها مرتبطًا ببريطانيا حيث تم اختطاف أميرة من العائلة المالكة ويشترط المختطف لعودتها أن يمارس رئيس الوزراء الجنس مع خنزير على الهواء مباشرة، معتبرًا ذلك عملا فنيا. وعلى الرغم من المناشدات الرسمية بعدم مشاهدة البث إلا أنه يتخطى المليار مشاهدة وقت حدوثه، والذى اعتبره الفنان/المختطف عملاً إبداعيًا يعبر عن تأثير السوشيال ميديا، وأطلق سراح الأميرة بعد بداية البث وشنق نفسه، فإذا لم يكن ذلك هو الرعب فما هو الرعب؟

مشهد من الجزء الأول لـ Black Mirror

مجرد تخيل استغلال السوشيال ميديا بهذا الشكل، إلى جانب الاختطاف وكذلك توريط مسئول حكومي بارز يعد واجهه للدولة في عمل يثير اشمئزاز المجتمع ويخالف معتقداته الدينية هو أمر شديد الاختلال، وما يزيد الأمر سوءًا اعتبار كل هذا نوع من أنواع الفن المختطف المجرم الذى لم يفكر في تأثير قراراته على الأشخاص الذين تسبب لهم بالأذى والدمار.

“وعلى الرغم من الشكل الطبيعي الذى تظهر به الحلقات وكأنها تنتمى لنوعية الدراما والتي تناقش قضايا اجتماعية وعلاقات إنسانية، ولا تتضمن ظهور وحش مخيف خارق للطبيعة أو قاتل متسلسل ذي إرادة حديدية في اختياره للقتل والتدمير، لكن إضافة التكنولوجيا لمعادلة الدراما يُضيف بعدا مرعبا”.

أفكار ثرية

كل هذه الأفكار الثرية استمرت بواقع فكرة كل حلقة وفتحت المجال لظهور مسلسلات تنتهج نفس المسار منها (Love, Death + Robots)، وما زاد من الانتشار هو شراء منصة “نيتفلكس” لحقوق المسلسل وعرضه عبر منصتها من خلال إنتاج أمريكي، الأمر الذى منح المسلسل حيوية أكثر ومساحات أكبر فى عرض الأفكار واشتباك الجمهور العالمي معها، حيث انطلق المسلسل من هذا التأسيس ليعبر عن قصص البشر في المستقبل القريب الذى تسيطر فيه التكنولوجيا على الكثير من مناحي الحياة، وتتحكم الشاشات السوداء في كثير من العادات وتحولها لمؤثر حقيقي في عوالم البشر المتخيلة في حلقاته، والتي ينتمى معظمها لنوعية الـ”ديستوبيا” وبعضها لعوالم ما بعد الكارثة -والكوارث هنا بالطبع تكنولوجية-.

Love-Death-Robots

وعلى الرغم من الشكل الطبيعي الذى تظهر به الحلقات وكأنها تنتمى لنوعية الدراما والتي تناقش قضايا اجتماعية وعلاقات إنسانية، ولا تتضمن ظهور وحش مخيف خارق للطبيعة أو قاتل متسلسل ذي إرادة حديدية في اختياره للقتل والتدمير، لكن إضافة التكنولوجيا لمعادلة الدراما يُضيف بعدا مرعبا، وذلك بمجرد التفكير فى احتمالية حدوث ما نشاهده بدورنا على شاشات سوداء ذكية.

رعب الذكاء الاصطناعي

ما يزيد من عامل الخوف، ما يثار حاليًا من توقعات بتطور الذكاء الاصطناعي وما كان ممتعًا مسليًا في الماضي كما الحال في سلاسل أفلام “Terminator” و”Matrix” أصبح الآن مخيفًا يُنظر له من قبل الجمهور باعتباره المستقبل القادم، مما يعيدنا للاوعي وعلاقته بفنون الرعب، والذكاء الاصطناعي هو أكبر مخاوف العصر الحديث.

لهذا يعد الموسم السادس من المسلسل بحلقاته الخمس مستمرا بنفس النجاح ونفس مستوى الرعب، خاصة وأنه اعتمد على قصص تدور أحداثها في الحاضر والماضي القريب، وهو ما وضع عبئًا على كثير من العناصر الفنية على رأسها تصميم الإنتاج، حيث إن هذا الموسم يعود لستينات وسبعينات القرن الماضي، وخلافًا للمواسم السابقة كانت إحدى حلقاته بالفعل عن قتلة متسلسلين وأيضًا عن وحوش وكيانات خارقة للطبيعة دون أن يفقد تداخل التكنولوجيا مع حياة البشر وتأثيرها السلبى، لهذا تضمن شكلا مختلفا للخدع البصرية وتصميما مبتكرا لشكل التكنولوجيا المبهرة لو تواجدا فى هذه الحقب الزمنية، مع الاستمرار في التعامل مع الأفكار بأنطولوجية وتأثير مرعب.

لذلك يعتبر عصب هذا المسلسل هو السيناريو والأفكار التي انتهت بنهاية العالم فى آخر حلقات المسلسل وبدأت بعوالم الكم أو Quantum Realms على اعتبار أنها من التطبيقات الفيزيائية محل البحث حاليًا من قبل العلماء في العالم.

عن رامي المتولي

ناقد سينمائي مصري، من مواليد القاهرة عام 1981. عضو نقابة الصحفيين وجمعية نقاد السينما المصريين (FIPRESCI). بدأ العمل كمحرر في جريدة الدستور عام 2010 متخصص في السينما والمسلسلات العالمية ثم انتقل للكتابة النقدية في عدة صحف ومواقع إلكترونية. شغل منصب مدير تحرير جريدة القاهرة الأسبوعية، والمدير الفني لمهرجان الإسماعيلية الدولى للأفلام التسجيلية والقصيرة، ومبرمج سينمائى في مهرجان القاهرة السينمائى الدولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *