أحدث الحكايا

د. أحمد السعيد يحكي: رسائل الفيل إلى القنفذ.. عميد الأدب الصيني عاشقا

ربما لا يدرك القارئ العربي الكثير عن الصين، وخاصة في الجانب الثقافي والإنساني منها، رغم عراقة الإرث الحضاري الصيني، وما قدمته للبشرية من كنوز حضارية ومعرفية كبرى، وربما يرجع السبب الرئيس لذلك لتأخر حركة الترجمة الصينية العربية، والتأثر الثقافي العربي بالمنتوج المعرفي الغربي، وقلة وصول الإبداع الصيني مترجما ربما بسبب الأحداث السياسية أو لقلة المترجمين والمهتمين بالنقل الثقافي، أو لبعد المسافة،  وهنا من خلال هذه المنصة الثقافية الواعدة والمميزة في انطلاقتها وفكرتها، جاءت الفرصة لنقدم سلسلة من المقالات عن الوجة الثقافي للصين، والتي تملك خمسة آلاف عام من التواصل والاستمرار الحضاري لم تنقطع أو تتبدل، بل توارثت وتطورت رغم كل ما مرت به الصين من نكسات وأزمات.

بعيدا عن الاقتصاد والسياسة

وفي هذه الزاوية التي تفردها لنا منصة شهرزاد سنتناول الصين بعيدا عن الاقتصاد والسياسة، ونقترب من الشخصية الصينية، لعلنا نراها بشكل أوضح، أو نزيل الغمام الذي يحجب عنا رؤيتها.

وفضلت أن نبدأ سلسلة من الحكايات تتناول قصص حب الأدباء الصينيين، فمن ناحية سنعرف أكثر عن الأدب في الصين، ومن ناحية نرى الأديب عاشقا، تماما كما نحب ما بين العقاد ومي، وكما نفتش بين رسائل كافكا إلى ميلينا.

العظيم لوشون

 

علة الصين ليست في جسدها بل في روحها، والأدب هى خير علاج للروح”

لوشون

وأحب أن أبدأ هنا بصاحب الأثر الأكبر في الأدب الصيني المعاصر، وعميد الأدب الصيني ومؤسسه، العظيم لوشون الذي ذهب شابا لليابان ليدرس الطب، ثم هجر الطب وتحول إلى الأدب قائلا: “علة الصين ليست في جسدها بل في روحها، والأدب هى خير علاج للروح”.

ولم يقدم أحدا للأدب الصيني -ولن يقدم-، كما قدم لوشون. وصفه الزعيم الصيني ماو تسي دونج بأنه “روح الأمة الصينية ومفكر عظيم وثوري وكبير قادة الثورة الثقافية”.

لوشون هو الذي مهد الطريق لكل من كتب الأدب في الصين من بعده، ولا يذكر أدب صيني بدون جملة عن لوشون.

لوشون

 

ولكن لوشون أيضا كان بشرا.. رجلا.. متعلما.. مثقفا.. محبا.

تزوج صغيرا بالطريقة التقليدية زوجة لم يقابلها سوى بعد الزواج كما جرت عادة المجتمعات الشرقية، قدمها له والداه تبعا للعرف الصيني القديم، وظل معها طيلة شبابه كزوجين اسما، ورفقاء سكن فقط كما ورد في مذكراته.

ومرت الأيام..

حتى وصل لوشون لسن الرابعة والأربعين بدأ يحاضر مادة الأدب في جامعة بكين. وفي أول محاضرة له وفور دخوله على طلابه، وصفوه بشخص غريب الأطوار عجيب الطباع والهيئة، يبدو مخيفا…

إلى أن فتح لوشون فمه..

تغير الانطباع الأول لدى الطلبة جميعا، تبدلت نظرات التعجب لملامح التقديس، كل خاطرة وردت في خيالهم تحاول أن تسخر منه، وقفت منتصبة تنحني له احتراما..

ومن بينهم كانت الطالبة شوي جوانغ بينغ، الشابة الصغيرة المخطوبة لابن صديق والدها حين كان عمرها ثلاثة أيام، والتي هي الآن في أول سنوات العشرين تستعد للزواج من الخاطب المنتظر منذ عقدين..

انبهرت شوي جوانغ بينغ بالرجل الذي ينطق فيُقدَس “لوشون”..

وتقاربا.. وتقربا.

وصارت هي حب حياته رغم النيف وعشرين عاما التي تفصلهما…

انتقل لوشون بعدها للتدريس في جنوب الصين، وبقيت هي في شمالها..

خطابات الأمكنة

كتاب خطابات الأمكنة

 

لكن الخطابات وصلتهما. 164 خطابا تبادلاها عبر سنواتهما، جمعتها شوي جوانغ بينغ في كتاب صدر بعد وفاة لوشون اسمته “خطابات الأمكنة”.

لوشون الرزين الكبير الجاد الذي يكتب بحرفة شديدة ينتقي فيها كل كلمة وإشارة، ويحرص أن تكون بدلالات عديدة يفسرها قراءه كل بطريقته.

يكتب للصغيرة بلغة رجل تلقى تعليما متوسطا لا يحترف الكتابة ولا يمتهن الأدب. تناديه في خطاباتها “الفيل الأبيض”، ويناديها “القنفذ الصغير”.

يخبرها عن أيامه كيف يقضيها، وتحكي له عن الأحلام كيف تنتابها.

تحاول هي الميل للغة الأدباء، ويناديها هو بالفتاة الطيبة، كما ينادي العوام البنات الصغار.

أغلب الخطابات افتتحها هو بمناداتها:  “أخي جوانغ بينغ”، وكأنه يتهرب من الاعتراف بحبه، لكنه يفضحه بحثه عن لقب يبقيها قربه.

في واحدة من رسائله كتب لها قائلا:

“جوانغ بينغ

الساعة الآن تشير إلى انتصاف الليل، الهدوء يعم الأركان، هنا مدينة ساكنة لا تشبه شانغهاي الصاخبة.

لا أعرف إن كانت الفتاة الطيبة قد خلدت لنومها أم لا؟

أظن أنها لم تنم بعد.

هل تعرفين: كل ما أرجوه أن ترعي الفتاة الطيبة نفسها جيدا، وتهتم بصحتها، وأنا أيضا سأحرص على سلامتي وصحتي، ليمر سريعا الوقت الذي ننتظر انتهاءه،

ولا أجعل قنفذي الصغير يشعر بالقلق.

كوني بخير”.

لوشون

عائلة لوشون

ماتت تبكي

 في نهاية الخطابات تزوج لوشون منها.. وكانت هي سببا في حفظ تراثه المكتوب، ونشر أعماله تباعا بعد وفاته.

أعماله التي كانت أيضا سببا في وفاتها، حيث بعد عشرين عاما من وفاته سُرقت مسودة بخط يده من منزلها، فدخلت في أزمة قلبية من شدة الحزن عليها، وماتت وهي تبكيها.

وإلى لقاء مع عاشقين جدد من أدباء الصين.

عن د. أحمد السعيد

خبير في الشأن الصيني، كاتب ومترجم، مؤسس مجموعة بيت الحكمة للثقافة، حاصل على جائزة الدولة الصينية للإسهام المميز في مجال الكتاب، وجائزة الصداقة الصينية من مقاطعة نينجشيا، وسفير القراءة بمشروع بكين الدولي للكتاب 2017. ودكتوراه في علم الأعراق البشرية "الإثنولوجيا" ودراسات ما بعد الدكتوراة في علم سياسات القوى الناعمة الدولية. له مؤلفات بالصينية والعربية منها "طريق الصين - سر المعجزة"، "بما لا يضر مصالح الشعب"، "منهج الحكمة في تعليم اللغة الصينية"، "ألف حكمة وحكمة صينية" "سنواتي في الصين"، "الصين في المخيلة العربية". وشارك في ترجمة أكثر من ثلاثين عملا من الصينية للعربية لكبار أدباء وكتاب الصين. وكتب في المجالات السياسية والبحثية لأغلب الدوريات الكبرى العربية والصينية.

تعليق واحد

  1. منير عتيبة

    مقال جميل ومهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *