أحدث الحكايا

سنان أنطون يحكي لأميرة دكروري: لست معنيا بالأغنياء.. بل أروي حكاية المهزومين

“لم أكن أفكر كثيراً بالأسباب التى تدعونى لأن أحب عملاً فنياً، كان الجمال يضربنى فى الصميم بتلقائية”.

من رواية «وحدها شجرة الرمان» أنقل هذه العبارة، التي تجسدني كلما أقرأ عملا لصاحب الرواية «سنان أنطون»، فهي تجسد ما أشعر به من ألم وتفاعل ومحاباة للشخصيات وللعراق ولوطن عربي ولدول تتشابه في المصير وتتقاطع في ويلات الحروب والطائفية، نقلها أنطون بمنتهى الرهافة في كتاباته سواء الروائية أو الشعرية.

بداية معرفتي بسنان أنطون كانت من خلال «وحدها شجرة الرمان»، روايته الأشهر، والتي وبمجرد انتهائي منها ما لبثت أبحث عن كل أعماله وحواراته، وما زلت أتذكر الغصة التي شعرت بها في قلبي وأنا أعيش مع أحداث الرواية ثم مع انتهائها، هذا الشعور الذي تجدد مع كل قراءة لأدب صاحب «فهرس».

وفي هذا العام، 2023، أتيحت لي الفرصة لمقابلة الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون وجها لوجه، للمرة الأولى، خلال مهرجان دواير الثقافي، أقابل الشخص الذي جسّد ونقل ويلات العراق الذي نشأ فيه ولا  يزال يعبر عنه وعن شعب يعاني من تبعات حروب متتالية واضطهاد. استمعت له في ندوتين خلال المهرجان، وحظيت بحوار ممتع خلافهما، ولكن كل ذلك أبدا لم يكن كافيًا لإشباع تساؤلاتي رغم أنه كان كريما في إجاباته.

سنان أنطون في مهرجان دواير الثقافي

سؤال الهوية والوطن 

تدور روايات أنطون حول العراق، وتنضح بسؤال الهوية، وكما ذكر في ندوته بالمهرجان أن الشارع الذي نشأ فيه في العراق يحمل طوائف وأعراق متعددة لم يعد موجودًا الآن بحكم الطائفية التي توغلت في شوارع العراق، بالتالي سؤال الهوية حاضر بقوة، إذ إن في كل رواية من رواياته يتناولها بجوانب وصيغ وأشكال وموضوعات مختلفة.

أشار سنان إلى روايته «يا مريم» التي تحكي عن علاقة المواطن بالمكان والدولة والوطن وإشكاليات الوطن والمسافة بين الافتراضات والنظريات والواقع المعيش، مؤكدا أنها إشكاليات موجودة في كل بلد تقريبًا، لكن في البلاد التي تعاني من حروب كالعراق نجد أنه حدث تفكيك للدولة وجاء نظام مبني على الطائفية، بالتالي هويات الناس تغيرت بشكل شديد.

قال لي أنطون: “دائما كان فيه طوائف لكن لم يكن دائمًا الإنسان يُعرَّف أولًا وأخيرًا كـ (س) أو (ص) حسب طائفته، وهذا أيضًا الهم الرئيسي لرواية «وحدها شجرة الرمان»، لأن الهوية أصبحت تتسبب في قتل ناس وتهجير ناس من بيوتها، ونفس الشيء في «يا مريم»، و«فهرس» بينما تناولت الغربة في «خزامى». لا أقرر أنني أريد الكتابة عن الهوية، لكن هناك هموما تبدو أهم من غيرها بالنسبة لي”.

مع ذلك أكد أنطون أنه يعتقد أن هوية الإنسان دائمًا ما يعاد تشكيلها وتتغير بمرور الزمان وحسب الأحداث، سواء بشكل واعٍ أو لا واعٍ.

بالنسبة لي الأدب أو الفن هو الذي يشتبك مع الأسئلة الصعبة، وليس ما يعيد ترسيخ الصورة النمطية

الشاعر والروائي والمترجم سنان أنطون

الوطن الوردي

لكن مع الهوة بين الأفكار المتخيلة أو المتوقعة أو الصورة الوردية عن الوطن وبين الواقع الذي تصطدم به البلاد التي تعاني من أزمات وحروب، بدا لي أن لا وطنا سعيدا أو ورديا يتوقع سنان أنطون وجوده أو يكتب عنه، وهو ما نفاه لي إذ أكد أنه حتى البلاد التي تعاني من أزمات هناك فئة من المجتمع يمثل لها الوطن مكانًا سعيدًا وآمنًا، بعكس من يعانون أو الطبقات الأضعف وهؤلاء هم من يهتم بالكتابة عنهم.

قال: “الوطن الوردي موجود، لكن النظرية والقيم الوطنية للجميع ويجب أن يوفر الوطن الأمان، هذا موجود خاصة في الرواية الأخيرة «خزامى» حين ننظر للماضي. هناك بشر يعيشون في أوطانهم سعداء لأن الوطن بالنسبة لهم آمن وجميل لأسباب اقتصادية وسياسية. وفي المقابل آلاف من الناس تغرق في البحر لرغبتهم في الهرب مما يسمى الوطن لأنه بالنسبة لهم جحيم، وأنا في كتاباتي غير معنيّ بالأغنياء، هناك آخرون كثر يكتبون عنهم، لكن بالنسبة لي الأدب أو الفن هو الذي يشتبك مع الأسئلة الصعبة، وليس ما يعيد ترسيخ الصورة النمطية”.

  الأدب وخاصة الرواية لتركيبتها وتفاصيلها كونها سرد يمكن أن تقدم سرديات مغايرة وذاكرة غير رسمية، ولكونها تحتضن حكايات وأصوات وأفكار ينبذها التاريخ الرسمي أو يحررها بشكل سلبي.

تاريخ مواز

بالفعل كتابات سنان أنطون لا ترسخ الصورة النمطية بل تحكي المأساة -إن جاز التعبير- التي يعاني منها ليس الشعب العراقي فحسب وإنما الشعوب التي وقعت تحت طائلة الحرب بشكل ما. ومن خلال كتاباته أيضًا يمكن أن نقترب من الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق أكثر فأكثر، نشعر بها ونتعرف عليها حتى بدا أن الرواية في مجملها كفن يمكن أن تمثل تاريخًا جديدًا يضاف إلى التاريخ المكتوب، وهو ما أوضحه أنطون بشكل مختلف، ففي رأيه “الأدب عمومًا مواز للتاريخ، فبحسب تعبيره يوجد تاريخ رسمي، وتاريخ أكاديمي يكتبه المؤرخون، ويوجد الأدب وخاصة الرواية لتركيبتها وتفاصيلها كونها سردا يمكن أن تقدم سرديات مغايرة وذاكرة غير رسمية، ولكونها تحتضن حكايات وأصوات وأفكار ينبذها التاريخ الرسمي أو يحررها بشكل سلبي”.

 

يضيف أنطون: “هذا موجود عمومًا وخاصة في المجتمعات التي تعاني من حروب أو أحداث دموية، فتكون فيها الروايات بديلا، لتوثيق الذاكرة الشعبية أو الذاكرة غير الرسمية، وتوثيق الأسئلة التي لن يتعامل معها التاريخي الرسمي أو سيتعامل معها بشكل سطحي، أو حتى قد تتغير لصالح أيدولوجية معينة وفي الغالب يُذكر فيها المنتصرون وليس المهزومين أو المظلومين”.

غلاف رواية «وحدها شجرة الرمان»

البداية

بما أن الرواية تتخذ جزءًا أكبر من كونها متعة للقارئ أو فنًا جميلًا يحمل مشاعر متنوعة، أو حكاية بشر مختلفين تعطي القارئ الفرصة أن يتعرف عليهم ويعايشهم حياواتهم، دائمًا ما تشغلني اللحظة التي قرر أن ينقل فيها الكاتب أدبه إلى الناس. كيف اكتشف نفسه؟ ومتى قرر أن يشارك جزءا من روحه وأفكاره؟

كشف لي صاحب «يا مريم» عن ذلك برحابة فذكر أنه حينما كان صغيرًا رغب في الكتابة، وفي الثمانينيات حين كان عمره حوالي 15 عامًا بدأ يتعامل مع الأدب بشكل جديّ. لافتًا إلى أنه هذه الفترة في العراق هي التي برز فيها صدام حسين بشكل كبير، وهي أيضًا فترة الحرب مع إيران وصعود الديكتاتورية، وكان يرى وقتها أن معظم أدب الحرب يتناول الحرب بشكل غير واقعي وغير ما يسمعه بشكل فعلي ممن حوله، وفي المقابل كانت تصله روايات من المنفيين خارج العراق (دون مساحيق تجميل) -على حد تعبيره-، فأدرك أن الأدب حيز يتعامل مع الواقع وقد يضيئه.

يقول أنطون: “هذه الروايات التي كانت تصلنا من الخارج وتتحدث عنا، كانت تجعلنا نشعر أن أحدا يكتب عن محنتنا، وأنا كذلك رغبت أن يشعر أحد داخل المعاناة أن أحدًا يكتب ويعبر عنه، لذلك فأول رواية لي كانت عن سجين في زمن الديكتاتورية وعن كيف يعيش الإنسان في ذلك الزمن؛ فالكتابة إذا بدأت من رغبتي في الحكي والكذب!”.

 ردود الفعل بعد أول وثاني رواية تجعلتي أشعر أن هناك حوار قائم بيني وبين قراء لا أعرفهم وأريد لهذا الحوار أن يستمر.

جمهور الصف الأول 

رغبته في الحكي هذه لم تصل فقط للقارئ العراقي أو العربي، وإنما تُرجمت كتابات سنان أنطون إلى ثماني لغات مختلفة. وفي العام 2014، فازت الترجمة الإنجليزية لروايته “وحدها شجرة الرمان” بجائزة سيف غباش-بانيبال لترجمة الأدب العربي، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة جريدة الإندبندنت البريطانية للأدب المترجم، كما وصلت روايته “يا مريم” إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2013، وصدرت بالإسبانية، وغيرها من التكريمات.

ولا يخفى عن قرائه أنه يعمل أستاذًا للأدب العربي في جامعة نيويورك منذ عام 2005. لذلك فجمهور سنان أنطون متشعب ومختلف، ومن مختلف الجنسيات، لكننه يعتبر القارئ العربي هو همه الأول، أو “جمهور الصف الأول” الذي يكتب له -على حد تعبيره-.

يقول سنان: “لا أكتب لإرضاء قارئ معين. في الأدب العربي بعض الناس يكتبون بهدف الترجمة وإرضاء جمهور أجنبي، لكنني أريد أن يقرأني كل الناس وأسعد بالترجمات، لكن الجمهور العربي هو جمهور الصف الأول بالنسبة لي، لأنه هو الذي يُكتب عنه ومازال يؤثر عليهم. ومع ذلك بالطبع أسعد بالتفاعل، وكل ردود الفعل بعد أول وثاني رواية تجعلتي أشعر أن هناك حوارا قائما بيني وبين قراء لا أعرفهم وأريد لهذا الحوار أن يستمر. حين كنت في العراق كانت هناك روايات كتبت عن أمريكا اللاتينية وكنت أشعر بأنها تمثلنا لأن هناك ديناميكيات وأمور وثيمات موجودة في كل بلد في العالم الحديث مع تغيير بعض التفاصيل، وهذا هو سحر الأدب”.

 

هنا لا يمكن إغفال جانب الترجمة، فقد ترجم سنان أنطون أشعارًا لمحمود درويش وسركون بولص وسعدي يوسف وغيرهم إلى الإنجليزية، وعن هذا أكد أنه حين يقرأ أشعارًا تعجبه ويحبها يحب أن يشاركها مع الناس فيترجمها.

أشعار محمود درويش بترجمة سنان أنطون

البحث عن سنان أنطون

الأمر بهذه البساطة إذا يقرأ أنطون الشعر ويترجم ما يحب، ويحكي قصة بلده الأم التي نشأ فيها وتكونت شخصيته فيها كذلك، وهو كما ذكرنا يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعمل أستاذًا للأدب العربي في جامعة نيويورك منذ عام 2005، هذا جعلني أتساءل عن شعوره في أن يعيش في دولة بينها وبين بلده الأم حرب.

أكد أنطون صعوبة الأمر قائلا: “الأمر ملتبس وغريب حين تعيش في بلد يقصف بلدك الأم، لكن الغريب أن المجتمع الأمريكي كان منفصلا تماما عن السياسة وما يحدث”.

 

في هذا الصدد، لا يمكن ألا نشير إلى روايته « فهرس»، وبالتحديد إلى شخصية نمير البغدادي، الأكاديمي الذي يعيش في أمريكا -كما الكاتب-، فسنان أنطون قرأ مقالة عن شخص يغسل جثث الموتى، فهزته وبدأ يجمع المواد فكتب «وحدها شجرة الزيتون» بعدما سيطرت العراق على فكره في كل أخبارها وأحداثها. كما أنه عاد إلى العراق في 2003 ليخرج فيلما وثائقيا بعنوان “حول بغداد”، وهو تمامًا ما حدث مع شخصية نمير -إلا أنه لم يكمل الرواية-. وهو ما أكده أنطون ضاحكًا “نمير لم يكمل الرواية بينما أكملها أنطون”. لافتًا إلى أنه موجود في كل الشخصيات، لكن شخصية نمير هي الأقرب له وليست هو، كما أنها عبّرت عن الصراع أن يعيش في بلد يقصف بلده ويرى دمارها، بينما يحكي عن معاناة آخر داخل الحرب ذاتها ويعيش المأساة.

غلاف رواية «فهرس»

القاهرة 

هنا، ورغم متعة الحوارات وكثرة التساؤلات، كان يجب أن ينتهي الحوار، لكن لم يكن من الممكن أن أتحدث مع سنان أنطون، ولا أسأله عن القاهرة التي يبدو وأنه يعرفها جيدًا إذ عاش فيها حوالي عامًا كاملا، وحفظها عن ظهر قلب.

يقول:  “ثمة مدن عظيمة في العالم بسبب عمقها وتاريخها ومكانتها منها القاهرة، لكل من يتكلم العربية ويحب الأدب العربي والثقافة العربية. القاهرة كانت ولا تزال مركزًا. قبل زيارتي للقاهرة كنت أعرف حواريها من روايات نجيب محفوظ، ومن الأفلام وكنت أعرف أغانيها وأحب ثقافتها الشعبية، فكان من الرائع أن تسنح لي الفرصة لأعيش الحقيقة التي أعرفها بعض الشيء.”

وأضاف: “بالنسبة لي هي أكثر مدينة عربية عشت فيها غير بغداد، وأنا كشخص أعشق الثقافة الشعبية والحياة اليومية، كنت محظوظًا بها، إذ إنني أحببت الغنى الهائل بصريًا وصوتيًا، أحب دائما أن أزور القاهرة وأعيش في شوارعها. لذلك قلت إنني أعيد إعلان انحيازي للقاهرة، مهما كانت الظروف صعبة أنا أحب القاهرة”.

سنان أنطون مع أميرة دكروري في زيارته الأخيرة للقاهرة

عن أميرة دكروري

‎ مدرس مساعد بدبلومة الإعلام الرقمي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. صحفية وصانعة أفلام وثائقية ومنسقة إعلامية للفعاليات الثقافية والفنية، وآخرها مهرجان دوائر الثقافي. وتعمل حاليًا معدة بقناة الحياة. كتبت في عدد من الصحف والمطبوعات والمواقع الإلكترونية المصرية، منها بوابة الأهرام، ومجلات البيت وفنون وعالم الكتاب، وجريدة القاهرة. حاصلة على الماجستير في التلفزيون والإعلام الرقمي من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *