أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): إيزيس ومريم العذراء وخضرة الشريفة.. أم المصريين المقدسة

تبدو الأديان مكسوة بطبقة ذكورية صارمة في بنيتها اللغوية، وتصوراتها عن الحياة، وفي تهميش النساء من أي مزايا روحية. مع ذلك هناك مرحلة في علم الأديان تتحدث عن “دين أمومي” في عصور ما قبل التاريخ، وأن النظام الأبوي حديث نسبيًا.

تتجلّى الأمومة في وجود “إلهات” مقدسات مثل “تيامات” و”عشتار” في العراق و”إيزيس” في مصر.. وفي تقديس القمر كرمز أمومي مقابل ذكورية “الشمس”، وكذلك “الأفعى” رمز الحياة والقوة والخصوبة والحكمة الروحية. آنذاك نشأ نظام الأسرة مرتكزًا على الأم، فهي صمام الأمان والحامية بينما الأب قد يكون مجهولًا أو غائبًا في السفر والصيد. وإلى اليوم مازالت بعض الشعوب تنسب الأولاد إلى الأم، ويُقال إننا يوم القيامة سوف ننادى بأسماء أمهاتنا. فهل اختفى الإرث الأمومي حقًا تحت وطأة التدين الذكوري؟

الإلهة إيزيس

اليتم بفقد الأم

من أمثال أمي “اللي من غير أم حاله يُغم، واللي من غير أب له رب”، فدور الأب ليس جوهريًا، بينما اليتم الحقيقي بفقد الأم. ينسحب الأب شيئًا فشيئًا من حياة أولاده كلما كبروا بينما تظل الأم تنظر إليهم على أنهم أطفالها. وربما الأمان النفسي للطفل في وجود الأم يفوق أضعاف الأمان المادي الذي قد يحققه الأب.

ألم يلفت نظرنا الحديث الشريف “أمك ثم أمك ثم أمك”؟ وفي ثقافتنا العربية اشتهرت أغنية “ست الحبايب” احتفاء بالأم ولم تشتهر أغنية مماثلة عن الأب. ألا يدعونا ذلك إلى النبش في وعينا الأمومي؟

صورة تعبيرية

أسطورة التأسيس الإيزيسية

لكل حضارة أساطيرها المؤسسة، مثلًا الحضارة اليونانية وهي حديثة نسبيًا ومتأثرة بالمصرية، تحتل المركزية في نشأتها شخصيات ذكورية مثل زيوس وأبولو وديونسيوس برغم وجود إلهات مقدسات وقويات. بينما مصر مدينة لأسطورة أمومية صريحة بطلتها إيزيس التي قاومت ظلم الأخ وذهبت إلى بلاد الشام لتجميع أشلاء زوجها المغدور به “أوزيريس” وأنجبت منه أول ملك نصف بشري ونصف إله هو “حورس”، تلك هي البداية الأولى لفكرة مصر وحضارتها، ولنظام الأسرة نفسه بعد عصور الصيد والمشاعية، استقر الإنسان المصري على ضفاف النيل وزرع وحصد وابتنى كوخًا وأدرك أهمية الثالوث المقدس: “الأم والأب والابن”. ومن دون إيزيس تنهار تلك الأسطورة.

ثم تتكرر معنا قصة إيزيس وأوزيريس وطفلهما حورس كأول عائلة مصرية مقدسة، في نشأة الديانة المسيحية حيث الأم والآب والروح القدس. والمفارقة أن يأتي الصليب مطابقًا في شكله لمفتاح الحياة المصري، وأيقونات مريم وطفلها مطابقة لتماثيل وأيقونات إيزيس وطفلها.

على البمين ايزيس وابنها حورس، وعلى اليسار مريم العذراء وولدها عيسى

حكاية خضرة الشريفة

لا تتوقف تجليات الوعي الأمومي عند إيزيس ومريم العذراء فحسب، بل تتجلى أيضًا في قصة “خضرة الشريفة”. وربما نحن المصريين دون سائر الشعوب الناطقة بالعربية من نطلق اسم خضرة على النساء.

ثمة قصص كثيرة ورد ذكرها عن خضرة معظمها تنويعات على السيرة الهلالية، تلك الملحمة الشفاهية العظيمة التي حاول العرب من خلالها تشييد أسطورة خاصة بهم.

السيرة الهلالية

 

لا تعبر السيرة عن وقائع تاريخية دقيقة بالضرورة، وإنما عن وعي العرب بذاتهم، ومثلما ارتاب البعض في ولادة مريم للسيد المسيح وهي مازالت عذراء، ارتاب أمراء ورجال بني هلال حين ذهبوا لتنهئة أميرهم “رزق بن نايل” بمناسبة ولادة وريث ماله وسلطته من زوجته خضرة بعد عشر سنوات من عدم الإنجاب.. ثم اكتشفوا أن الطفل أسمر البشرة، فتشككوا في شرف خضرة باستثناء الملك سرحان.

لم يكن الشك يرقى إلى درجة اليقين لذلك اكتفوا بنفيها وإبعادها مع طفلها، ومراعاة لأنها أميرة بنت حسب ونسب، قرروا أن يعطوها إرثها هي وابنها في مال زوجها الذي لم يعترف بالولد. ولأن المال كان عبارة عن قطعان من الإبل، فكان المعتاد أن يكلف أحدهم بضرب الدبوس وهو يشبه الحربة وفي النقطة التي يقف فيها يكون نصيبها من الإبل.

ومثلما ظهر الملاك الحارس للسيدة مريم وطمأنها ووقف بجوارها في آلام المخاض والولادة وإطلاق الاسم على طفلها. ظهر الخضر عليه السلام في هيئة شيخ عابر. والخضر في الوعي الشعبي أكثر من مجرد نبي.. فهو المثال الكامل في المعرفة والقدرة معًا. وتجاوز الدبوس الذي أطلقه حقها إلى جزء من مال الملك سرحان نفسه، وامتثل الهلالية لذلك.

قصة عن الخروج

يتكرر الخروج كرهًا، خرجت إيزيس بعيدًا مع طفلها حورس حتى لا يقتله عمه الظالم، وخرجت مريم مع طفلها إلى مصر كي لا يقتل، وخرجت خضرة مع طفلها إلى الصحراء. وفي الحالات كلها كان الهدف حماية “الطفل المقدس” المنذور لمهمة عظيمة. ولا يصح القول إن ابن خضرة مجرد طفل عادي لزعيم قبيلة وإلا لماذا يهتم الخضر عليه السلام شخصيًا به؟

وبرغم تنوع التفاصيل لكن الرابط بينهن أن الأب مجهول أو انقطعت صلته بالابن، فإيزيس أنجبت طفلها بتجميع أشلاء زوجها، ومريم أنجبت بلا أب بيولوجي، والخضرة طردت دون أن يعرف طفلها من أبوه الذي أنكر نسبه.

توقفت خضرة عند مملكة “العلامات” مع طفلها وجاريتها والإبل، وبدلًا من أن تساعدها تلك العطية في عيش حياة كريمة تتعرض ليلًا لقطاع طريق بقيادة عطوان العقيلي الذي طمع في إبلها أولًا ثم في جمالها وجرها كي ينام معها لولا أن توسلت إليها أنها وضعت طفلها للتو، وأنها سيدة شريفة، فتعاطف معها ابن عمه سلمان وأنقذها منه:

لما وطّت وقعوا اللثمات

وظهر جمال الشريفة

بص الجبان أبو قلب مريض

اللي حصل ليه مراحيش

لكن انظر لما ربك يريد

قام طلب منها أمر الفواحش

مجددًا يظهر لها “الخضر” الذي لم يكن غير بعيد عما يجري لها، وربما يكون هو من ألهم “سلمان” كي يتدخل لإنقاذها. ولما عطوان رفع رضيعها ورماه تلقاه الخضر بنفسه وربطه بحزام ظل معه طول عمره مصدر قوة وحماية له.

عز ما تبكي والعقل هايجن

الشيخ القطب (الخضر) خطّى وجاها

من البعد نادى يا خضرة

يا أصيلة لمي غطاكي (هدومك)

من الله نرجو للرضا نظرة

أنا القطب عم ضناكي”

ما يعني أننا إزاء طفل مقدس وليس عاديًا، لذلك اهتم الخضر بأن يسألها حول تسميته، فاقترحت اسم “سلامة” تيمنًا بنجاتها من السرقة والاغتصاب، فرد الخضر وقال إن اسمه “بركات”. وكأنه له اسم أرضي مستوحى من النجاة والسلامة، واسم إلهي مقدس يشير إلى ارتباطه بالخير والبركات.

لا ننسى تفاصيل أخرى مهمة لأن خضرة كانت شابة جميلة ورزق كان عجوزًا، وليس من السهل أن ينجب، وفي مشهد جميل تخرج خضرة إلى بحيرة الطير مع النساء، وتأملت الألوان فلم يعجبها الأبيض، إلى أن ظهر طير أسود شرس يمنع أي طير آخر أن يشاركه الشرب من البحيرة.

“بصت عليه الشريفة وراعت له

صلاة النبي يا قرة عيوني

انشرح فؤادها قامت زغردت له

وقالت يا صبايا جملة اسمعوني

يا سلام يا اسمر ياللي الرب حلّاك

في جسمي البلا (كلا موني)

بالله لو أسمر قوي برده اتمناك”

كأنها توحمت واشتهت أن يكون ابنها بقوة وشراسة هذا الطير، ولا تخفى هنا النزعة الإيروسية والتعبير عن استهامات خضرة واشتهاء الأسمر بوصفه رمزًا للفروسية والفحولة والحماية. بينما زوجها عجوز أبيض البشرة وجد نفسه في مأزق، فهو لا يجرؤ على الاعتراف به ولا يستطيع أن يتهم خضرة صراحة.

لا تظهر خضرة في السيرة الهلالية وإنما أيضًا في سيرة شيخ العرب السيد البدوي. والمفارقة اللافتة أن من تغني قصتها الفنانة الشعبية التي تحمل اسمها “خضرة محمد خضر” رحمة الله عليها.

 

قداسة خضرة

سواء خضرة الشريفة تنسب حقيقة إلى ذرية النبي فهي حفيدته، أو هو نسب أسطوري، فالدلالة واحدة تسبغ عليها القداسة، وتظهر كيف طوع الوعي المصري أسطورته الأمومية في علاقته بالدين الإسلامي، وهذا يظهر بجلاء في محبة آل البيت وخصوصًا السيدات مثل فاطمة الزهرء والسيدة زينب والسيدة نفيسة، وكلهن نساء مقدسات يتبارك بهن المصريون حتى اليوم.

في رواية خضرة محمد خضر تعيش خضرة الشريفة صبية معززة ومكرمة في منزل أبيها لكن تنجح عرافة عجوز شريرة في إغوائها كي تركب سفينة معها، فتنجذب لحلم السفر والخروج والابتعاد عن سلطة الأب، ويطمئنها رؤية الناس في السفينة بعمائم خضر كناية عن إسلامهم، ثم يتضح أنها خدعة أوقعتها في شرك الكفار. وفي كل الحالات الخروج مهم لإعادة اكتشاف الذات والعالم.

هنا يُستنفر المصريون لاستعادة خضرة الشريفة، ويتم اللجوء إلى حامي طنطا شيخ العرب، الذي يخرج مع مساعده عبد العال ودراويشه في إثر خضرة.

لا شك أن الحروب تستنفر دائمًا فكرة حماية العرض وشرف النساء، وكان القصد من القصة إظهار كرامات شيخ العرب إبان الحروب الصليبية حسب الرواية الشعبية والغناء له: “الله الله يا بدوى جاب الأسرى” لكن القصة هنا تركز على أسيرة واحدة ذات مكانة مقدسة.

والطريف أن ملك الصليبيين استهزأ بالبدوي لأنه لم يجد معه سلاحًا إلا جريدة “خضرة”، ونلاحظ هنا التطابق بين الصفة واسم خضرة نفسه، وكلها إشارات إلى أن مصر خضراء مباركة يحميها الأولياء وليس السيوف والمدافع:

قاله اخرس دا أنا البدوي

أنا مهدد بيوت الكفرة

قاله يا بدوي جاي تحاربني

ما معكش سلاح بالمرة

ما معكيش غير الجريدة

لا نافعة جوة ولا برة

قاله الحرب قوة قيمة

لكن انت جبان يا ابن الكفرة

أنا عمري ما أعرف أحارب

إلا ومعايا الجريدة الخضرة

بمجرد أن ضربه البدوي على ذراعه بالجريدة استوعب أنه أمام قوة خارقة وأعلن هزيمته. ثم عاد بصحبة خضرة وكشفوا عليها وتأكدوا أنها مازالت عذراء بختم الله، كناية عن قداستها التي لا تهان ولا تمس.

ومثلما أصبح لإيزيس معبد عظيم في جزيرة فيلة، ولمريم العذراء كنائس باسمها، ثمة مسجد يحمل اسم خضرة الشريفة في مصر القديمة ومازالت أطلاله قائمة إلى اليوم كأحد المعالم الأثرية.

مسجد خضرة الشريفة
معبد ايزيس بجزيرة فيلة

 

المرأة المقدسة

قد لا يصدق بعضها قصص إيزيس ومريم وخضرة. كل هذا لا يُهم كوقائع في حد ذاتها. وإنما المهم المعنى المضمر في الحكاية. عن الأم المقدسة الحامية للابن المقدس.. عن قداسة معنى الأسرة لدى المصريين.

وليس القصد هنا الانتصار للأمومة على الأبوة، وإنما ثمة حاجة أن نتسق كمصريين مع طبيعة وعينا العميق بالدين منذ آلاف السنين، وان نؤمن أن سفينة الأسرة وعمارة الأرض وتحرير الوطن والعدالة والامتثال لوحي السماء، كل ذلك يرتبط باتحاد وتناغم الذكورة والأنوثة، أو الين واليانغ حسب التصور الصيني، وحسب المعني الحقيقي لمفتاح الحياة المصري. فالنظرة إلى المرأة بوصفها مخلوقًا أقل عقلًا تحركها الشياطين والشهوات، وتمر بها أيام تجعلها “نجسة”، ولا تؤتمن على شرفها ما لم يكن هناك رجل يضعها تحت المراقبة.. هذه النظرة شوهت وشرخت الاتحاد والتوازن والتناغم بين الجنسين روحيًا وعاطفيًا وجسديًا. برغم أن البدهية البسيطة التي تخبرنا بها قصص إيزيس ومريم وخضرة الشريفة أنه لا يكون ثمة رجل مقدس ما لم يكن ابنًا لامرأة مقدسة!

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *