1
منذ أيام مرت تسع سنوات على وفاة رسام الكاريكاتير مصطفى حسين، وبعد أيام قليلة ستحل ذكرى رحيل الكاتب الساخر أحمد رجب، فكلاهما رحل عام 2014، وتحديدًا في يومي 16 أغسطس و12 سبتمبر.
ومازالت أذكر أنني حين علمت برحيل الفنان مصطفى حسين، لم أستطع أن أُخبر الأستاذ أحمد رجب، واتصلت بالكاتبة الصحفية صفية مصطفى أمين لأسألها هل علم بالخبر؟ لكنها لم تكن تعلم، وخشيت أيضًا أن تبلغه بوفاة صديق عمره.
فقد بدأت صداقة أحمد ومصطفى في عام 1974 عندما صدر قرار من الرئيس أنور السادات بالعفو عن الكاتب الكبير مصطفى أمين بعد أن قضى تسع سنوات في السجن، وقرر تعيينه مشرفًا على دار أخبار اليوم، ليبدأ رحلة إعادة هذه الصحيفة الكبيرة إلى مكانتها مع توأمه الذي عاد من منفاه الاختياري في لندن، وكانت أول فكرة خطرت على بال التوأم هي عمل كاريكاتير يومي يكتبه أحمد رجب، ويرسمه مصطفى حسين.
ويروى مصطفى أمين قصة بداية الكاريكاتير اليومي على صفحات الأخبار بقوله:
“لاحظت أن الأخبار تنقصها الصور الكاريكاتيرية وعلى الفور فكرت فى عمل كاريكاتير فى الصفحة الأولى، وآخر فى الصفحة الأخيرة، ولم يطل تفكيري كثيرا في الفنان الذي سوف يحقق لى الهدف الذي أنشده. إنه أحمد رجب تلميذي الذي بدأ محررا في مجلة الجيل، وكان أسلوبه الساخر لافتا للنظر للوهلة الأولى، وقد شجعته في البداية أن يقوم برسم الكاريكاتير لكنه لم يكن مستعدا لذلك، وأكد لي أنه مستعد لإعطاء الأفكار للرسامين، وهم يقومون بتنفيذها، لكنني بدأت أفكر في رسام موهوب ينفذ أفكار أحمد رجب، وعرفت أن عندنا رسامًا يعمل بالأخبار اسمه مصطفى حسين يقوم برسم القصص، واخترته لكي ينفذ الفكرة، وبالفعل بدأ التعاون بينها، وفوجئت في نهاية الشهر الأول بأن توزيع الأخبار قد ارتفع 100 ألف نسخة”.
اجتماعات تحضير الكاريكاتير ليست جلسات تعلو فيها الضحكات -كما يتصور البعض- لكنها أشبه باجتماعات عاصفة، لا مجال فيه للهزار، ففى الخمسينيات كان اجتماع الكاريكاتير بين مصطفي أمين وعلي أمين، ورساما الكاريكاتير رخا وصاروخان عاصفًا، وإذا رأيتهم وجدتهم في حالة هَم، وغم كأنهم يتفقون علي صيغة نعى ينشرونه في الأهرام -على حد تعبير أنيس منصور
2
ما قبل الكاريكاتير
وفي أوج شهرة الثنائي طلب أحد الوزراء حضور جلسة تحضير الكاريكاتير!
وحاول أحمد رجب أن يعتذر، لكن الوزير أصر، وحضر الاجتماع، وجلس على مقعد في نهاية الحجرة صامتا، وعلى مدار ساعتين ونصف الساعة جلس الساخران يفكران حتى انصرف الوزير زهقًا.
وبعد لحظات من انصرافه مزق أحمد رجب الكاريكاتير الذى رسمه مصطفى حسين؛ وبدأ في خلق فكرة الكاريكاتير من البداية؛ لأن لحظات التكوين لم يكن لأحد أن يطلع عليها قبل أن تنضج وتصبح جاهزة للعرض على الناس.
فاجتماعات تحضير الكاريكاتير ليست جلسات تعلو فيها الضحكات -كما يتصور البعض- لكنها أشبه باجتماعات عاصفة، لا مجال فيه للهزار، ففي الخمسينيات كان اجتماع الكاريكاتير بين مصطفي أمين وعلي أمين، ورساما الكاريكاتير رخا وصاروخان عاصفًا، وإذا رأيتهم وجدتهم في حالة هَم، وغم كأنهم يتفقون علي صيغة نعى ينشرونه في الأهرام -على حد تعبير أنيس منصور- مع أنهم كانوا يفكرون فيما يضحك الناس.
ولا تختلف جلسات أحمد رجب ومصطفى حسين عن هذه الجلسات، بل إن علاقتهما تؤكد نظرية أن “الأقطاب المختلفة تتجاذب” فعلى الرغم من “العِشرة” الطويلة، والصداقة القوية التي تجمع بين القطبين الكبيرين فإن كلاهما يختلف تماما عن الآخر، فأحمد رجب ملتزم جدًا في حياته لدرجة أنك يمكن أن تضبط ساعتك على مواعيد حضوره وانصرافه من أخبار اليوم.
أما مصطفى حسين فهو يعشق السهر ولا يلتزم بأي مواعيد – على حد تعبيره- ولا يعرف متى نام ومتى يستيقظ، لكنه في الوقت نفسه صاحب ريشة استثنائية.. وأستاذ لم يتجاوزه الزمن.. وإنسان لم يقهره المرض.. وفنان وصفه صلاح جاهين بأنه أحسن رسام في مصر.. فهو صاحب قدرات خاصة جعلت أجيالا كاملة لا تعرف رساما سواه، ولا تتذوق الكاريكاتير إلا إذا كان بريشته، لذلك كان ارتباطه بأحمد رجب بمثابة معجزة شاء القدر أن تكون ما تبقى لنا من زمن المعجزات الصحفية الذي لم نلحق به.
فكلاهما حالة فريدة تستحق أن نقف أمامها طويلا لنعلم سر الخلطة التي جعلت اثنين على هذا القدر من الموهبة يذوبان معًا، فتشعر أن ريشة مصطفى حسين تفكر، وعقل أحمد رجب يرسم!
وذلك عندما علم أحمد رجب بمرض صديق عمره مصطفى حسين، ويومها نسي الكاتب الكبير كل أسباب الفراق، وتذكر الأيام الجميلة والذكريات الطيبة واتصل برفيق كفاحه وهو على فراش المرض.
3
الصلح خير
ظل أحمد ومصطفى يعملان سويًا على مدار 40 عامًا، ولم يفترقا سوى ست سنوات فقط؛ لكنها كانت بمثابة 60 عامًا على القراء الذين كانوا يعرفون يوم السبت بكاريكاتير الثنائي أحمد رجب ومصطفى حسين، لكن شاء القدر أن يعودا مرة أخرى للعمل معًا بعد أن زالت أسباب الخلاف الذى نشأ بينهما في نهاية عام 2003.
وذلك عندما علم أحمد رجب بمرض صديق عمره مصطفى حسين، ويومها نسي الكاتب الكبير كل أسباب الفراق، وتذكر الأيام الجميلة والذكريات الطيبة واتصل برفيق كفاحه وهو على فراش المرض.
ويروى مصطفى حسين تلك الواقعة بقوله:
“مرضت بالسرطان، وكانت حالتي تسوء كل يوم عن الذى سبقه، لعدم توافر العلاج الذى أحتاج إليه، فدخلت في غيبوبة، ووقتها تدخل أحمد رجب وقلب الدنيا من أجلى وطلب من المسئولين أن يأمروا بسفري إلى الخارج وعرفت أنه كتب “عقلي وقلبي وكل مشاعري خارج السيطرة؛ لأن إنسانا من أعز الناس يقف الآن على حافة الحياة.. وأتوسل إلي الله ألا يغيب عن ناظري.. مصطفى حسين الذى قاسمني أعنف معارك الصحافة يخوض الآن – وحده – آخر معارك العمر دفاعا عن الحياة.. صلوا معي من أجل مصطفى حسين”. وقال أيضًا: “إنني أكتب هذا العامود كل يوم بعد إجازة قصيرة من فكر ضبابي شارد مع المنعطف الذى يجتازه مصطفى حسين.”
ويضيف حسين قوله:
“عندما سافرت للعلاج في لندن كان يتصل بي باستمرار، وهذه مسألة مكلفة ماديًا، لكن مكالمته كانت لها أثر بالغ في نفسيتي، فأنا طريح الفراش بلا حول ولا قوة لمدة أربعة شهور، وكان المنظر الذى أشاهده من الحجرة لا يتغير، مما كان يشعرني بالكآبة والرتابة لكن أحمد رجب هون علي ما قاسيت خلال فترة المرض”.
لذلك كان من الطبيعي عند عودتي أن اعتذر له وأقول “سامحني يا أحمد.. أنت أحسن مني”، وعادت علاقتي به أفضل مما كانت عليه.
انتهى كلام مصطفى حسين؛ لكن لن تنتهى أبدا أسطورة هذا الثنائي الاستثنائي الذى لا يمكن تكراره، فقد أبدعا سويًا شخصيات لا يمكن تجاوزها، والفرق بينها وبين أية شخصيات أخرى هي أنها “من لحم ودم” فلابد أن تكون قابلتها عشرات المرات وجلست معها، واصطدمت بها، وتشاجرت معها أيضا!