صار الأمر على عكس توقعي تماما، بدأت في مشاهدة حلقات مسلسل وثائقي قصير محكم الصنع والحبكة عن قضية “جوني ديب” و”آمبر هيرد” الشهيرة، متوقعا أن تنتهي قناعتي كما حدث مع ملايين، إن هذه الشقراء الفاتنة ليست سوى “حيزبونة” كاذبة، وأن “جوني ديب” رجل طيب مغلوب على أمره ارتضى الإهانة لسنوات خيرا من وصمه بأنه “راجل طري”. ومع نهاية مشاهدة الحلقة الثالثة من المسلسل، تأكدت من أن “آمبر هيرد” شقراء وفاتنة و”حيزبونة” كاذبة بالفعل، لكن مهلا لماذا أشعر أن “قلبي واجعني عليها”؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال، ربما يكون من المفيد سرد ما جرى بين جوني ديب وآمبر هيرد وفقا لما ذكره كلاهما.
جوني ديب وآمبر هيرد
لقد التقيا في أحد الأفلام، حينما كان “ديب” نجما هوليوديا ساطعا، و”آمبر” فتاة عشرينية تقوم بـ”أدوار صغيرة في أفلام مهمة، وبأدوار كبيرة في أفلام تافهة” -كما تقول هي نفسها-، ثم جمعت بينهما ضمن أحداث ذلك الفيلم، قبلة حسية، كان يفترض أن تكون “كده وكده”، لكنها طالت وتوغلت وضربت في أعماق كليهما، حتى عندما صرخ المخرج “!CUT”، كان واضحا للجميع أنه تأخر في الفصل بينهما. لقد وقعا في الأسر. (ملاحظة جانبية، كيف يمكن لامرأة أن تقبل جوني ديب، ولرجل أن يقبل آمبر هيرد، وأن تكون القبلة في الحالتين كده وكده؟)
هل كان ذلك حبا فعلا؟ أم أن جوني وآمبر “بيعرفوا يبوسوا كويس” فحسب؟ أحيانا القبلات تكون خادعة، تعطي إحساسا بعمق العلاقة، بينما هي تعبر فقط عن عمق الرغبة الآنية، لكنها قبلة بلا جذور في القلب، والقلب مراوغ ونصاب ومسكين وعادة “ما بيصدق يشبط في بوسة”، ثم ينسج خيالات العشق والهوى المنتظرة.
عموما هذه أسئلة وجودية أحسب أن جوني وآمبر شخصيا ولا اللي “يتشدد لهم” يستطيع الإجابة عنها رغم كل ما حدث، لكن الأكيد أنه بعد حفل زفاف أسطوري ورغم استمرار ملاحقة أضواء الكاميرات لهما، وبعدما “اتقفل” عليهم بيت، وبعدما بدأ أثر القبلة إياها يخفت، وبدا كلاهما كمحارب على خط النار يتحفز للطرف الآخر لاصطياده، فيسجل كلاهما للآخر صوتا وصورة أحيانا ما يمكن أن يمثل “دليل إدانة”، حينما يذهبا للقضاء في لحظة كلاهما على يقين من أنها قادمة.. الأكيد أن كليهما كان يدرك أن ما بينهما الآن يمكن أن يكون أي شيء سوى أن يكون حبا.
صفقة العمر
من الواضح بشدة، أن آمبر تعامت مع جوني باعتباره “صفقة العمر”، مفتاح سحري قد يفتح لها كل الأبواب المغلقة، ستكون زوجة نجم عابر عالمي كما يقول الكتاب، نعم يكبرها بنحو عشرين عاما، يقولون إنه مدمن وقد تعافى وهي تعلم أن شر المدمنين هم الذين يعودون للتعاطي بعد الإقلاع، متعكر المزاج، عصبي، لكنه “جوني ديب” وكفى.
صديقنا جوني، لابد وأن جمال ولطافة وشباب وشقاوة “آمبر” قد جرجروه في البداية، “إحنا زملاء مرحلة واحدة وأعرف جيدا كيف لرجل أربعيني أن يقع في الفخ”، ثم إن هناك أسطورة ذكورية رائجة تقول بأنه بعد أن تتجاوز الأربعين وبعدما تمر بالعديد من التجارب العاطفية الفاشلة هناك امرأة جميلة تنتظرك في مكان ما. هذه توأم روحك الذي ظللت تبحث عنه لسنوات، حينما تجدها لا تفرط فيها ولو منحوك الذهب أو الدولار بسعر السوق الموازية.
بهذا المنطق فإن آمبر، صفقة بدورها لجوني. في العموم هكذا تجرى الزيجات، ثمة مشاعر ما تتولد، ثم قبلة -لابد من قبلة- توحي بالنعيم المنتظر، ثم بعض الحسابات العقلية لإرضاء المخ أو تقديم الرشوة له ، تنتهي بالقرار المتوقع. لا أحكام هنا على الطرفين، الزواج من أجل الفوز بامرأة جميلة، أو للظفر بزوج مشهور وثري، مع وجود مشاعر ما قد تكون حب فعلا، ينجح أحيانا فلماذا لا نجرب؟
ما الذي جرى إذن؟
وجدت شيئا من الإجابة في آخر مكان متوقع. كتاب “حياتي مع جيفار”، “دار ألكا، ترجمة فتحي خير، 2022، لـ”أليدا مارش” زوجة الأسطورة الغنية عن التعريف “تشي جيفارا”.
ولدت قصة الحب بين “تشي” و”وأليدا” على خط النار حرفيا، كان “جيفارا” يخوض حرب العصابات العنيفة في كوبا برفقه صديقه “كاسترو” وكانت أليدا فتاة ريفية تقرأ الكتب الرومانسية، حينما أخذها الحماس الثوري
تشي جيفارا وأليدا مارش
ولدت قصة الحب بين “تشي” و”وأليدا” على خط النار حرفيا، كان “جيفارا” يخوض حرب العصابات العنيفة في كوبا برفقه صديقه “كاسترو” وكانت أليدا فتاة ريفية تقرأ الكتب الرومانسية، حينما أخذها الحماس الثوري، وانضمت إلى حرب العصابات بدورها ضد النظام الديكتاتوري الذي يحكم كوبا حينها، وفي خريف عام 1958 قامت بمهمة محفوفة بالمخاطر، تتضمن أن تلف على خصرها شريطا لاصقا يضم أموالا، وعليها أن تصعد لأحد الجبال التي يتحصن بها “جيفارا” ورجاله لتسليمه المال لشراء سلاح. حينما التقت “تشي” لأول مرة وجدته جذابا ومرهقا وصارما، ولم يظهر هو مشاعر خاصة ناحيتها، لكن بعد ثلاثة أيام عندما دعاها لتركب بجواره في السيارة في طريقهما “لتدريب على إطلاق النار”، بدا أن كليهما قبّل الآخر القبلة إياها.. رمزيا على الأقل هذه المرة.
“جيفارا” وهو يقود السيارة وبرفقته “أليدا” كان مناضلا ثوريا يعاني من تجربة زواج فاشلة، ويحاول أن ينهي إجراءات الطلاق رسميا بيد، بينما بيد أخرى يطلق الرصاص. رجل يعتقد بأنه “مضطر لكبح الحب الذي أشعر به لاعتبارات أخرى”، وكانت “أليدا” فتاة في أوائل العشرينيات من عمرها لم تجرب الحب مطلقا وغارقة في الحماس الوطني.
تدريجيا أصبحت أليدا سكرتيرة تشي ثم عرفت بـ”فتاة تشي”. بعد ثلاثة أشهر من لقائها الأول قدم تشي هديته الأول لمحبوبته زجاجة عطر “flor de Roca”، وبعد ذلك بثلاثة أشهر أخرى تزوجا في حفل زفاف أرادوه سريا، لكن كاسترو أراده احتفاليا فكان له ذلك. وبينما تمني أليدا نفسها بشهر عسل مع زوجها، وجدته يترك كوبا كلها بعد الزواج بعشرة أيام ليسافر إلى المغرب واليابان في “مهمة ثورية” امتدت لثلاثة أشهر كاملة.
تصف “أليدا” مشاعرها عقب ارتباط مصيرها بمصير “جيفارا” قائلة:
“عشت حياة مليئة بالقلق وعدم اليقين.. كنت أشعر أن وقتنا قصير”.
كان جيفارا يشعر بذلك أيضا، لذلك أنجب من “أليدا” أربعة أطفال خلال أربع سنوات، وكأنه يريد أن يسابق موتا محتوما. لا تحسب أليدا بدقة في كتابها المدة التي قضتها بعيدة عن جيفارا، لكنها تشير تقريبا إلى خمس سنوات. قُتل “جيفارا” في بوليفيا بعد ثمان سنوات من زواجهما، أي أنهما ظلا بعيدين عن بعضهما البعض ضعف ما قضياه معا تقريبا وسط أجواء قلقة، ولقاءات تجرى وسط أجواء تخفٍ وسرية في تنزانيا وبراج، وحتى في كوبا نفسها، لدرجة أنه حينما أراد جيفارا أن يودع أطفاله قبل سفره الأخير لبوليفيا، اضطر أن يقابلهم متنكرا في هيئة رجل ستيني عجوز، وأن يقضي معهم بضع ساعات وهم يظنونه صديقا لـ”بابا” خوفا من أن يتحدث أي من أطفاله عن لقائهم به، ويضعهم جميعا في خطر. لكن الخطر كان ظلا لتشي. وهكذا وقع القدر المنتظر في شهر أكتوبر من عام 1967.
هل شرط صمود الحب أن يولد في ظروف مستحيلة قاهرة يلعب فيها البعد دورا رئيسا في أن تتقارب الأرواح والمشاعر؟ هل ينمو الحب في وجود “القلق وعدم اليقين”؟
شرط صمود الحب
كيف صمد حب “تشي وأليدا” وسط زخات الرصاص وظلال الخوف والقلق، والعيش بمحاذاة الموت، بينما انهار حب “ديب وآمبر” رغم أنه نمى وسط حياة باذخة آمنة وأجواء رومانسية مفرطة؟ كيف كان تشي وأليدا سوار حماية لبعضهما البعض، بينما تحول الأمر لجعبة سهام ترشق في القلب في حالة “ديب وآمبر”؟
هل شرط صمود الحب أن يولد في ظروف مستحيلة قاهرة يلعب فيها البعد دورا رئيسا في أن تتقارب الأرواح والمشاعر؟ هل ينمو الحب في وجود “القلق وعدم اليقين”، أم أن عدم اليقين هذا هو أول أدوات قتل الحب حينما يكتشف الطرفان أن أول قبلة بينهما لم تغادر شفاهما قط وظلت عصية على التسلل إلى أرواحهما؟
هذه أسئلة وجودية أخرى، لكن هناك سؤال لا يزال يستحق الإجابة.. لماذا تعاطفت مع آمبر رغم اعترافي بكونها “حيزبونة”؟
ربما لأني دائما ما أشعر بالتعاطف مع المهزوم، خصوصا حينما يكون هو نفسه سببا في الهزيمة “لعل هذا يفسر سبب تشجيعي للزمالك”. لقد راهنت تلك الفتاة الشقراء بعد القبلة إياها على أنها ستفوز بكل شيء فإذا بها تخسر كل شيء. خسرت “العريس اللقطة” والثروة اللامتناهية، والأخطر خسرت التعاطف من غالبية الجمهور، واكتسبت صفات التحايل والكذب، ومستقبلها في هوليود غامض ومشوش، وباتت الآن وحيدة بائسة، وفي الأغلب فإنها قد تجد نفسها في سبيل البحث عن نجاة، تلجأ لما فعلته سابقا، وقد تعود للأضواء من جديد عبر تأدية مشهد مع ممثل أربعيني لقبلة يفترض بها أن تكون “كده وكده” لكنها لن تكون كذلك أبدا.
قبل سفره الأخير لبوليفيا، أراد “تشي” أن يكتب لمحبوبته “أليدا” قصيدة حب ووداع على منديل أبيض، فلم يجد، لكنه كتب القصيدة الطويلة على ورقة احتفظت بها “أليدا”، تقول آخر سطور القصيدة:
“لا ترتجفي أمام الذئاب الجائعة
ولا في سهول الغياب الباردة
آخذك معي في قلبي
وسنواصل معا حتى يختفي الطريق”
لحظة.. إذا لم يكن هذا هو الحب فكيف يكون إذن؟