عندما أخبرتني الصديقة المبدعة نهى عاصم أنها تعيش في شقة دولت محمد بيومي شعرت بما يشبه الصدمة السعيدة، فاسم محمد بيومي يرتبط بذاكرتي وتاريخي ككاتب وناشط ثقافي وعلاقتي بالسينما منذ بداياتي، وأن تتاح لي فرصة زيارة بيت ابنته التي مثلت وهي طفلة في أفلامه، وأن أرى لوحات رسمها بيومي كنت أقرأ عنها فقط، وأن.. وأن.. وهل هي صدفة أن أدخل هذه الشقة في الذكرى الستين لوفاة بيومي (1894-1963)؟ وهذا العام أيضًا يتم الاحتفال بمرور مئة عام على إنتاج فيلمه “برسوم يبحث عن وظيفة”، أم استدعاني بيومي مرة أخرى؟!
وأخذتني ذاكرتي إلى عام 1995.
قررت الهيئة العامة لقصور الثقافة الاحتفال بمرور مئة عام على عرض أول فيلم سينمائي بالشرق في الإسكندرية عام 1895، باحتفالية عنوانها “الإسكندرية مهد السينما المصرية”. كان المشرف العام على تنفيذها المخرج والناقد والمترجم د. أسامة القفاش، وقد دعاني للمشاركة، فانخرطت بقوة وحماسة.
قدمت بحثًا ميدانيًا عن “دور العرض” السينمائي بالإسكندرية وما آلت إليه ليصبح بعضها محلات أحذية أو قاعات أفراح أو غيرها، والدلالة الاجتماعية لهذا التغير. وبحثًا ميدانيًا آخر أثبتُ فيه بالصور والوثائق وجود سينما صيفي في خمسينيات القرن العشرين في قرية خورشيد الكائنة على أطراف مدينة الإسكندرية، ولأنني ابن قرية خورشيد فقد أثر في هذا الاكتشاف كثيرًا، واستخدمته في قصصي ورواياتي بعد ذلك بطرق مختلفة.
لم تكن مشاركتي بالكتاب الذي صدر عن الاحتفالية قاصرة على هذين البحثين، إذ قدم لي د. أسامة القفاش نسخة من كتاب “محمد بيومى.. الرائد الأول للسينما المصرية” (صدر سنة 1994 عن أكاديمية الفنون، وحدة الإصدارات سينما 2) لأقدم عرضًا نقديًا له. شعرت بالرعب الحقيقي، فلم أكتب نقدًا من قبل، فما بالك بنقد لمثل هذا الكتاب البحثي المهم لمخرج كبير عن رائد السينما المصرية؟ قرأت الكتاب أكثر من مرة، ثم كتبت عنه، ولم أشعر بالارتياح إلا عندما قرأ القليوبي كتاب الاحتفالية، وأشاد بما كتبته.
من خلال كتاب القليوبي عرفت الكثير عن محمد بيومي، إضافة إلى الكثير عن الرحلة البحثية المضنية التي قام بها القليوبي بحثًا عن بيومي.
رحلة البحث عن بيومي
لم يكن محمد بيومي سيء الحظ جدًا، فبعد وفاته سنة 1963 بخمسة عشر عامًا فقط بدأ الدكتور محمد كامل القليوبي رحلة البحث عنه سنة 1978، في حين أن غيره من عباقرة العالم في مجالات مختلفة كان يتم اكتشاف بعضهم بعد رحيلهم عن عالمنا بقرن من الزمان أو يزيد.
بدأت رحلة بحث القليوبي عن محمد بيومى الرائد الأول للسينما المصرية عام 1978، فأخذ ينشر مقالات ودراسات عن هذا الرائد، إلا أن البعض شككوا في تأكيد القليوبي على الدور الريادي لبيومي، فترك القليوبي بطون الكتب والمجلات القديمة وغادر مكتبته ودار الكتب، وبدأ تنقيبًا أثريًا عن أفلام بيومي، فعثر على التراث الهائل لهذا الرائد الكبير، والذي أكد عمليًا صدق نظرية القليوبي عن ريادة بيومي للسينما المصرية.
16 عامًا قضاها القليوبي بحثا عن ووراء وفي حياة بيومى منذ 1978 وحتى صدور كتابه سنة 1994. وقد سبق هذا الكتاب بحثان للقليوبي عن بيومي، هما البحث الأركيولوجى المتمثل في التنقيب والبحث ثم الكشف عن أفلام بيومي وأوراقه ومذكراته وتراثه، والبحث السينمائي المتمثل في فيلم “محمد بيومي ووقائع الزمن الضائع” الذى أنجزه القليوبي عن حياة بيومي وأعماله.
تغلغل القليوبي فىي حياة بيومي من خلال ما كتبه من مذكرات وأزجال ومقالات وما أصدره من مجلات وما رسمه من لوحات وما كتبه غيره عنه، ومن خلال أفلامه الروائية والوثائقية، وشهادات الذين عاصروه وتعاملوا معه.
وقد سجلت ملاحظتي الشخصية على عنوان فيلم القليوبي قائلًا:
أريد أن أسجل ملاحظة –شخصية- أخيرة على اسم النص السينمائى “محد بيومي ووقائع الزمن الضائع”، فهو عنوان مشحون بالحنين الشديد إلى الماضي، وهو يوحي بدلالات غير حقيقية فيما أرى، فمن خلال قراءتي للكتاب كله أرى أن الزمن لم يكن ضائعًا بالنسبة لبيومي ولا بالنسبة لمصر أو القليوبي نفسه. فقد عاش بيومي زمنه/عمره بالطول والعرض والعمق، عاش حياة حافلة لا تتاح مثلها إلا لقلة نادرة، فعل في حياته كل ما أراده، وتمتع بكل ما فعله، ومشروعه الكبير/صناعة السينما في مصر كان تأكيدًا على أن شيئًا لم يضع من بيومي، فهو قد أسس المشروع الكبير الذى حلم به، وهو الذى أعطاه بنفسه لطلعت حرب لينفذ ما خطط له بيومي، لأن بيومي يعلم أنه لا يستطيع أن ينفذ كل الخطة بسبب قصور إمكاناته المادية، وبسبب طبيعته الشخصية أيضًا، فهو يحمل بداخله روح الرواد القلقة، يريد فتح طرق جديدة دائمًا، وقد يسير في الطريق خطوة أو خطوات ليشد الآخرين إلى السير فيها، حتى إذا اطمأن إلى أن غيره يستطيع أن يواصل المضي في الطريق بحث عن درب جديد غير مطروق ليمهده.. وهكذا.
متعدد المواهب
تقول السيدة شارلوت عن زوجها: “لكن هوه بقى.. كان عايز يفتكر دايمًا على حاجة جديدة.. يعنى عايز يعمل حاجة جديدة”. فإذا كانت قد بدرت من بيومي بادرة ندم في وقت ما فلم يكن الندم لأنه ترك مشروعه لطلعت حرب، ولكن لأنه لم يحفظ حقوقه قانونيًا عند تنازله عن المشروع. ولم يكن الزمن ضائعًا بالنسبة لمصر، فالبذرة التى بذرها بيومي أثمرت صناعة كبيرة في مصر والوطن العربي كله.
كان بيومي متعدد المواهب، متوثب العقل والأفكار، فبعد أن أحيل إلى الاستيداع من الجيش عام 1918 بسبب وطنيته، مارس أعمالًا كثيرة منها الخياطة، وصناعة الموبيليا، والأدوات الفوتوغرافية، والصحف التى أصدرها تأييدًا لثورة 1919، والتصوير والتمثيل والإنتاج والإخراج السينمائي، وكتابة الشعر، والفن التشكيلي، هو الذي أنشا جريدة آمون السينمائية، وكانت أول أعمالها تصوير عودة سعد باشا زغلول من منفاه بجزيرة سيشل، وكان هو المؤسس الحقيقي لاستديو مصر. إضافة إلى الكثير من الأفلام الوثائقية والإخبارية والروائية، كان يصور ويخرج ويمنتج ويحمض الأفلام بنفسه.
وكانت لي حكاية شخصية مع فيلمه “برسوم يبحث عن وظيفة”.
برسوم يبحث عن وظيفة
كُلِفت بالسفر من الإسكندرية لمقابلة الناقد الكبير علي أبو شادي رحمه الله، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة وقتها، لاستلام نسخة من فيلم بيومي “برسوم يبحث عن وظيفة” لعرضه في افتتاح الاحتفالية. ذهبت في اليوم المتفق عليه، وقابلت علي أبو شادي الذي فاجأني بأن الفيلم في باريس، وأنه سيصل في اليوم التالي.
ووقعت في حيرة، هل أعود إلى الإسكندرية، ثم أحضر غدًا، أم أبيت في القاهرة ولم أكن مستعدًا ماديًا لهذا المبيت. اتصلت بصديق لي كان طبيبًا في مستشفى الجمهورية، واتفقت معه على أن أبيت في سكن أطباء المستشفى. ثم قررت الاستفادة من يومي بالمرور على شركات الإنتاج لأشرح لهم فكرة الاحتفالية وأطلب منهم أن يقدموا ما يمكن أن يكون مفيدًا لها.
معظم هذه الشركات تعامل معي بالحسنى وصرفني، بعضها كان يرد بقرف، لكن بعضها وأذكر منها شركة جمال الليثي، قالوا ادخل حجرة الأرشيف وخذ ما يفيدك، فحصلت نتيجة هذه الجولة على عدد من الكتيبات التي كانت توزع على مشاهدي الأفلام السينمائية مثل “نور عيوني” و”أربع بنات وظابط” وغيرها، وكان عرضها إضافة جميلة، وعندما قررت أخذها بعد انتهاء الاحتفالية رفض د. أسامة القفاش وأخذها هو، ولا أدري مصيرها.
في افتتاح الاحتفالية شعرت بالسعادة عندما قال علي أبو شادي: “منير هو الجندي المجهول وراء هذا المهرجان”. كانت هذه الكلمة وإشادة القليوبي من أهم ما دفعني وقتها لمواصلة طريق العمل الثقافي.
لذلك دخلت شقة دولت ابنة محمد بيومي بالدور الثالث في إحدى البنايات بمنطقة سبورتنج محملًا بذكريات جميلة، الشقة الواسعة التي تطل على نادي سبورتنج توحي براحة نفسية ربما لا تكون مستمدة من المبنى بقدر ما تبثها الأرواح الطيبة التي عاشت في هذا المكان، وروح السيدة نهى عاصم التي ترعاه بمحبة غامرة، شعرت بقشعريرة في أصابعي وأنا أقلب نسخة عمرها أكثر من ثمانين سنة من كتاب “الجندى المجهول مذكرات وأزجال”، الذي ضم أزجال محمد بيومي ومذكراته، وقمت بتصوير نسخة “بي دي إف” من الكتاب لأحفظها لدي.
وضعت يدي على بعض لوحات رسمها بيومي بريشته، لمحمد نجيب، ولزوجته شارلوت يوسف كرالوفيتش النمساوية الأصل، وقفت طويلًا أمام صورة دولت بيومي ابنته وبطلة فيلمه “الخطيب نمرة 13”. المناظر الطبيعية التي تكاد تخرج من إطار اللوحة العتيق لأتمشى بين أشجارها، اللوحة التي رسم نصفها ثم أكمل النصف الباقي على ظهرها، وصورته التي رسمها لنفسه بالزي العسكري تعكس رؤيته لذاته، شخص يعرف ما يمتلك من مواهب يطلق لها العنان حد الجموح.
شعرت أنني نحلة أريد امتصاص رحيق كل هذا الفن، واستحلاب ذلك التاريخ الصاخب لرجل لم يتوقف لحظة عن الإبداع وإنتاج أفكار جديدة، وكان صديقي المخرج محمد خالد يواصل التقاط الصور ولقطات الفيديو للشقة ولأعمال بيومي منتويًا إنتاج فيلم تسجيلي بهذه المادة.
كيف مرت خمس ساعات في هذه الشقة ولم نشعر؟ هل سحر بيومي الوقت بمقص المونتاج البارع الذي استخدمه في أفلامه، أم أنه أخذنا بفنه لرحلة خارج الزمن فلم نعد نحس بوطأة دقات الساعة؟ لا أدري إلا أنني لم أكن أريد أن أغادر، وأنني حسدت نهى عاصم على الإقامة وسط الفن والتاريخ، وأوصيتها عليهما بشدة.