من الصعب أن يفهم طفل صغير عاشق للأفلام التي يراها في تليفزيون الجيران الأبيض والأسود؛ ثم في تليفزيون بيتهم الملون بعد مدة طويلة، ما تفعله تحية كاريوكا به.
كانت تحية راقصة، وتقوم بدور راقصة في معظم أفلامها، ومع ذلك لم أنظر إليها يومًا نظرة المجتمع إلى “الرقاصة”، خصوصًا المجتمع الريفي الذي أعيش فيه، الذي يستمتع برؤية رقصها وجسدها وتحررها وخروجها على مواضعات المجتمع، ثم يستغفر الله في سره، ويراها أقل منزلة في سلم الأخلاق والقيم والمكانة الاجتماعية، حتى لو كانت أشهر أو أغنى.
كانت تحية تقوم بدور الشريرة فلا أستطيع أن أكرهها، حتى عندما تتعذب الرقيقة ذات الصوت الملائكي ليلى مراد بسببها، أتعاطف مع ليلى، وألوم حسين صدقي، وأحب مرسى مطروح، ولا أكره تحية.
يقاسي نجيب الريحاني بسببها الأمرّين، لأنها ابتعدت عنه بسبب فقره وغناها، وتعود إليه بعد أن يتبدل الوضع، حتى أن عقلي يقول إنها ما كانت ستعود إليه لو لم يتنازل له الخواجة إيزاك عن المحل، وتضيع منها عقود أفلامها، بفضل اقتراب روميل من العلمين، ومع ذلك لا أكرهها، وأفرح عندما أكتشف أن ما شربته لم يكن سمًا.
تقتل أقطاي وأيبك بدم بارد، فلا أكرهها، ويقتلونها بالقباقيب فأحزن عليها.
أراها في أعتى صورة لجبروت المرأة مكتملة الجمال والقوة والغنى، وهي تمتص شباب الريفي الساذج الطماع شكري سرحان، بعد أن تلقي بسابقه العجوز الدائم عبد الوارث عسر إلى مزبلة الهجر، فلا أكرهها، ولا أستطيع في الوقت نفسه أن أستجلبها إلى أحلامي المراهقة كما يمكن أن يحدث بسهولة مع ممثلة و”كمان رقاصة”!
بل أشعر بها أمي، وأنني أحد أفراد عائلة حسين أفندي، كان الابن الأصغر الشقي لأم العروسة اسمه منير.
وعندما فهمت كل ذلك نوعًا ما، ازداد عجبي، فقد علمتني تحية الدرس الأول والأهم؛ كن نفسك، ولا تلتفت لما يفرضه عليك الآخرون، لا تحسبها بالمكسب والخسارة بل بما يريحك ويناسب طبيعتك، عندها ستكون مختلفًا ومتألقًا، وتفرض على الوجود ذاتك.
وعندما يجيب أي من معاصريها عن السؤال المعتاد “من هي أجدع فنانة بمعنى الجدعنة المصري؟” تكون تحية على رأس القائمة.
تفرد دائم
كيف يمكن لشخصية أن تشع كل تلك القوة والمحبة والمهابة عبر الشاشة وعبر السنوات الطويلة بصرف النظر عن الدور الذي تقوم به؟ كانت تحية ممثلة قديرة، لكنها كانت تضع بعض روحها الحقيقية في كل شخصية تقوم بها، ليس بالمعنى العام الذي يقوم به الممثلون الكبار، لكن بمعنى أنها تكون دائما الشخصية كما يتمناها المؤلف والمخرج، وتكون في الوقت نفسه تحية التي تستعصي على القولبة، ولا يمكن إقصاؤها، أو إخفاء جوهرها.
ما فهمته جاء من القراءات عن حياتها، ومواقفها، منذ أنهت رقصتها في كازينو بديعة ثم ذهبت إلى حيث يجلس الملك فاروق وحاشيته وقالت له إن هذا المكان لا يليق بملك مصر، فخرج وهو يشعر بالخجل، بينما كان يظن الجميع أنه سيعاقبها، ولم تفكر في عاقبة مثل هذه الجملة لهذا الملك.
وعندما يجيب أي من معاصريها عن السؤال المعتاد “من هي أجدع فنانة بمعنى الجدعنة المصري؟” تكون تحية على رأس القائمة. تتصرف بتلقائية تجلب لها الكثير من الاحترام والهيبة والمشاكل والخسائر المادية، لكنها لا تتنازل عن روحها ولا تغيرها ولا تطوعها لأي شخص ولا أية ظروف.
كانت تحية كريمة من النوع الذي يعطي وهو محتاج إلى ما يعطيه، أو يعطي كل ما لديه، وليس كرم من يقدم بعض الزائد عن حاجته.
لم أحب فايز
لم أحب فايز حلاوة في أي من أدواره أو كتاباته، وعندما كان يكتب صفحة أسبوعية بعنوان “حلويات” في مجلة أكتوبر التي أتابعها بانتظام، كنت أراها كتابة سمجة تحاول أن تكون كوميدية وظريفة فتزداد سماجة، وتضايقت منه عندما أخبرني أحد رجال الأعمال بالإسكندرية وهو الحاج محمد العبد رحمه الله أن فايز أراد ابتزازه، وعندما لم يخضع لهذا الابتزاز كتب عن الرجل كتابة فاحشة، فقرر أن يرفع عليه قضية.
لكنني كرهته عندما عرفت ما فعله بتحية، وخداعه لها، ثم طردها من شقتها، وأحببت تحية كما لم أحبها من قبل عندما رفضت حضور جلسة قضية لاسترداد الشقة المكتوبة باسمها، لأن فايز وزوجته وابنته ليس لهم مكان يعيشون فيه إن أخرجتهم منها، لكنها وحدها وتستطيع أن تتصرف، كما ربت طفلة لقيطة وجدتها أمام بيتها، حتى إن الشيخ الشعراوي غبطها وبشرها بقصور في الجنة.
كانت تحية كريمة من النوع الذي يعطي وهو محتاج إلى ما يعطيه، أو يعطي كل ما لديه، وليس كرم من يقدم بعض الزائد عن حاجته.
عندما سخر منها الشباب لأنها كبرت وعجزت وأصبحت “تخينة”، أصرت على الاستمرار في أداء الرقص لأنها قبضت الثمن ولابد أن تؤدي عملها، لولا أن أنقذتها ابنتها “زوزو” فرقصت بدلًا منها بعد أن ألقت على مسامعهم خطبة عصماء، لولا أنها خطبة في فيلم، وأن من تلقيها سعاد حسني، لألقوها في الشارع هي وأمها والفرقة بعد أول جملة، ويبدو أن هذا هو الدرس الأعظم الذي وعته تحية، ما كان قد كان ولا يمكن تغييره سواء أحببناه أو كرهناه، وما هو قادم يمكن التحكم فيه باختيارنا وقراراتنا، فاختارت حياة أقرب إلى الفقر، لكنها أكثر هدوءً بعيدًا عن الأضواء الملونة الصاخبة الزائفة.
واختارت أن تكون الإنسانة تحية، وتودع الفنانة كاريوكا بكل ما لها وما عليها، لم تبك على أموال ضاعت، أو شباب ولى، أو مجد انتهى، ولم تفخر بمواقف إنسانية ووطنية لا تزال تذكر لها حتى الآن، كل ما شغلها أن تكون روحها التي لازمتها طوال حياتها وفرضت نفسها على كل تصرفاتها تلقائيًا، وقد آن الأوان أن تتفرغ لها بشكل واعٍ، تستخرج ما بها من كنوز، وتضيء ما في سمائها من شموس، لن يرى وهجها أحد، ولن يشعر بقيمتها أحد؛ إلا تحية، ورب تحية.
رؤية بديعة عن شخصية متفردة.
شكراً أستاذ منير