وأنت لن تجد شبها من النظرة الأولى بين شهرزاد بألوانها المبهرة وجمالها الآخاذ فى الخيال وبين السيدة سوزان طه حسين بواقعيتها الشديدة وكلاسيكتها المفرطة، ربما يكون صغر حجمها بجوار العميد سببا، وقد يكون انزواؤها بعيدا سببا آخر، لكنك إن قرأت وصف طه حسين لسحر صوتها لأدركت شبها كبيراً، أما إن قرأت سيرتهما وقصة حبهما التى سجلتها فى كتابها البديع “معك” فستتأكد أن شهرزاد القرن العشرين هى تلك السيدة العظيمة، فمن صوتها بدأت الحياة، وعلى صوتها مات طه حسين بين نحرها وسحرها.
ومن العجيب والمدهش بالنسبة لى أن احتفالات كبيرة بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيل العميد قد أقيمت ومقالات وملفات وتحليلات ودراسات كبيرة ومهمة، لكن أحداً لم يلتفت إلى أكبر دائرة (نور) فى حياة طه حسين، ولا أظن العميد سيكون سعيداً قدر سعادته ونحن نستعيد معه حكايات شهرزاد التى سمعها فعاد إلينا منتصرا وخالداً حتى اليوم.
أخذه صوتها إلى شعوب وقبائل ترقص وتغنى وتتعبد وتحمد الله على نعمة السمع وسوزان وصوتها الذى يتردد صداه فى قصر مسحور، وأفاق من الغفلة إلى الانتباه فعرف أنه الحب..
نهر النور الفرنسي
سوزان.. فتاة باريس الصغيرة المؤدبة التى عبرت به ومعه هذه الرحلة الطويلة الشاقة المذهلة الفارقة فى تاريخ الثقافة العربية، فلم يكن الأمرعاديا على الفتى الأزهرى الضرير الذى جاء إلى باريس يحمل على ظهره قصصا من الفقر والبؤس والشقاء وبقعا من العسل الأسود مازالت تلطخ ذاكرته، وسمع صوتها تقرأ له فسرى فى القلب نهر من نور وأخذته الجلالة كما كان يذهب بخيال طفولته مع المدّاحين والمنشدين منصتاً من شباك الذاكرة على صوت سوزان، فتمايل الفتى وتطوح مع الهواء الفرنسى كغصن شجرة جاء من المنيا وعزبة الكيلو ليسمع صوت سوزان، صوتها الذى بدّد الغربة وأزاح الغمة ودخل بالفتى الضرير إلى أضواء متلألئة تفضى إلى حدائق خضراء واسعة ومنها إلى بوابات عتيقة مفتوحة على مصراعيها لبشر من كل مدائن الدنيا.
أخذه صوتها إلى شعوب وقبائل ترقص وتغنى وتتعبد وتحمد الله على نعمة السمع وسوزان وصوتها الذى يتردد صداه فى قصر مسحور، وأفاق من الغفلة إلى الانتباه فعرف أنه الحب، فجاهد النفس طويلاً وكتم الهوى كثيرا حتى فاض به الجوى فأخبرها بحبه وصدمته بجوابها.
اللقاء الأول
كانت سوزان ابنة الطبقة الفرنسية المتوسطة قد قرأت إعلاناً عن مساعدة تقرأ لأعمى، ومنذ جاءت وطرقتْ الباب بصحبة والدتها فى الثانى عشر من شهر مايو 1915 بمدينة مونبلييه وطه يسجل دخولها حياته سطراً بسطر:
“فى هذا الوقت، وبين هاتين العاصفتين، طرق باب غرفتى، وكنت أنتظر أن يطرق، وكنت أخشى أن تحول العاصفة بينى وبين ما كنت أنتظر، ثم فُتح الباب، ودخلت منه فتاة تصحبها أمها، فسلمتُ فى استحياء، وسلمت فى استحياء، وأخذنا فيما كنا قد التقينا له من حديث، ولم يكن حديثنا طويلا ولا متبسطا ولا منوعا ولا طلقا، وإنما كان مقيدا أشد التقييد، كنت أول أجنبى تراه هذه الفتاة، وكانت أول فتاة تزورنى، فلم يكن سبيل إلى أن يسهل بيننا الحديث فضلا عن أن يختلف ويتنوع، ولكنه على كل حال كان حديثا له ما بعده، ملأ قلبى غبطة وبهجة وحبورا وأملا”.
كان العميد بصيراً وهو يكتب السطر الأخير فقد امتلأت حياته بهجة وحبورا، وسيصبح صوت سوزان هو الدفء والونس والوعى وانطلاق الخيال وسيعرف الفتى طعم الحب مسموعا:
“.. لقد كنت أسمع صوتها وهى تقرأ أو تتحدث إلى، فأشغل بهذا الصوت عما كان يحمل إلى من الألفاظ، وعما كانت تدل عليه هذه الألفاظ من معان. ولو أن سائلا سألني في وقت من هذه الأوقات عما سمعت أو عما وعيت لما استطعت أن أجيب إلا بأني سمعت أجمل الموسيقى وأعذبها، ولو أن سائلا سألني عما وعيته من هذه الموسيقى الجميلة العذبة لما استطعت أن أجيب إلا بأني أحب مصدرها. ولكن أحداً لم يسألني، فلم أكن في حاجة إلى أن أجيب”.
عوالم شهرزاد القرن العشرين
وسوف تستمر تلك السعادة ليس فقط لصوت الموسيقى البديع الذى يسرى فى وجدانه، ولكن للعوالم الجديدة التى دخلها مع شهرزاد القرن العشرين، فبعد اللقاء الأول المرتبك ستأتى لقاءات تالية حيث تم تنظيم أوقات حضورها المسائى لتبدأ ليالى القراءة والونس بعد أن عاش ليال شديدة البؤس والكآبة منذ جاء باريس قادما من الأزهر، وبعد أن كافح طويلاً حتى تصرف له الجامعة بدل ملابس وسكن ومساعد، ها هو طه يُنظم الوقت وينتظر الليل وتأتى سوزان ويملأ صوتها وجدانه وعقله:
“كنا نقرأ من أدب وفلسفة وتاريخ وإنى لأكذب القارئ إن زعمت له أنى نمت في تلك الليلة نوما هادئا مريحا، وإني لأصدق القارئ إن أنبأته بأنى قد اتخذت هذا اليوم عيدا أحييه كل عام مهما تكن الظروف، ومهما تكن الخطوب”.
وعلى مدار شهرين من تاريخه اتصل اللقاء بين طه وسوزان، وظل الفتى يقاوم حبا بين الضلوع ووجدا وشوقا فى الأوصال لكنه لا يعرف إن كان هذا هو الحب أم مجرد واحة للعقل:
“.. ولم ينقض هذان الشهران حتى كان بين هذه الفتاة وبينى ود عقلى خالص، قوامه حب هذا الأدب الذى كنا نقرؤه والذى كانت تفسره لى وتدلنى على مواضع الحسن فيه..”
إنه الحب
حتى يأتى الصيف وهناك فى فرنسا يصطاف الفرنسيون فى أعالى الجبال وسواحل البحر وكانت سوزان فرنسية بالطبع ولها إجازة تقضيها مع عائلتها، وسافرت سوزان، وسيضطر الفتى إلى الاستعانة بقارئة بديلة لحين عودة سوزان، ولن أستطيع أن أصف لك مشاعره وهو العميد، فانظر يا صديقى كيف أصبح حال طه:
“.. وبقيتُ أنا فى هذه المدينة أقرأ الأدب الفرنسى مع غير هذه الفتاة، ولكن لم أكن أسمع صوت قارئتى، وإنما كنت أسمع صوت هذه الفتاة، وكانت الكتب بيننا متصلة، فكثيرا ما كنت أستبقى بعض ما يعرض لى من المشكلات فيما أقرأ لأسألها عنه، وما كنت أجد الرضا إلا فيما كانت تجيبنى به”.
إنه الحب، وليس هناك شىء يدل على الحب أكثر من تلك المشاعر فى حضورها وغيبها، لكنه غير قادر على مصارحتها خوفا من رفضها، فقد كان طه يعرف أنه شرقى أزهرى ضرير، وهى فرنسية كاثوليكية مُبصرة، وليس هناك ما يجعلها تفكر فيه، وقد كان، هاج الشوق واشتعل الهوى وقال طه كلمته “أنا أحبك سيدتى”، وقالت سوزان فى كتابها “معك” تصف هذه اللحظة:
“كان الأمر مفاجئا ومذهلا بالنسبة لي، فذات يوم وجدته يقول لى: “اغفرى لي، لا بد من أن أقول لك ذلك؛ فأنا أحبك”، وصرختٌ بفظاظة: “ولكني لا أحبك!” كنت أعنى الحبُ بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: “آه إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل”.
طه الذى بكى قلبه فى تلك اللحظة سيعرف لماذ ردت سوزان بتلك الفظاظة وسيضحك قلبه بعد أن تعيد سوزان النظر فى المسألة:
“ويمضى زمن ثم يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى أنني أريد الزواج من هذا الشاب، وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: “كيف؟! من أجنبى؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماماً.. ربما كان الأمر جنوناً لكنى كنت قد اخترتُ حياة رائعة.. اخترت وانتهى الأمر”.
اختارت سوزان
اختارت سوزان وكان طه ينتظر فى يأس بعد أن قررت الجامعة عودة طلاب البعثة بسبب الحرب، لكنه سيعود ليجد البشارة والبهجة التى ملأت روحه، ورحبت العائلة بالفتى وتمت الخطوبة:
“… وقضينا عاماً كاملاً خطيبين، ندرس الأدب والفلسفة والتاريخ واللاتينية، ولا نستطيع أن نفكر فى الزواج، فلم يكن بد من إذن الجامعة”.
وتلك قصة طويلة عاشها العميد بكل تفاصيلها حتى وافق مجلس الجامعة فلم يكن مسموحا للطلاب أن يفعلوا إلا بموافقة المجلس كاملاً، وتزوج شهريار الأدب العربى من شهزاد القرن العشرين التى ظلت تحكى حتى عادا سويا إلى القاهرة ليس كزوجين فقط ولكن كمنتصر بصحبة جيشه، عاد طه حاملا أرفع الشهادات – درجة الليسانس، وقد نالها سنة 1917؛ والدكتوراه، وقد نالها سنة 1918، ودبلوم الدراسة العليا في التاريخ القديم ودراسة اللاتينية واليونانية التى نالها 1919.
——————————————————————————————————————-
المصادر:
- مع طه حسين ـ سامى الكيالى ـ سلسلة اقرأ ـ دار المعارف
- الأيام ـ طه حسين ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
- معك: سوزان بريسو ـ ترجمة بدر الدين عروكى ـ مراجعة محمود أمين العالم