في إجازة صيف السنة الأولى بالجامعة عملتُ مع أصدقائي في محلّ أدوات منزلية بلاستيكية داخل المعرض الصناعي الزراعي بأبيس في الإسكندرية، وهو كان آنذاك من أهم أماكن الجذب خارج وسط المدينة قبل ظهور “جرين بلازا” و“كارفور”.
في يوم جمعة جاء وقت الصلاة، ولم يكن في المكان غيري واثنان من العمال، ولم يكن المسجد قد امتلأ. أصرّا أن أخطب الجمعة وأؤمّهما، ولم أفعل ذلك من قبل. لأنها كانت مناسبة المولد النبوي، خطبت ببساطة عمّا يقوله الخطباء عادة، ثم قلت بأسلوب مباشر إن الاحتفال بالمولد لا يعيبه الفرح ولا شراء عروسة المولد والحصان الحلاوة، بل إن إدخال البهجة على الأطفال هو ما يرسّخ حبّ النبي في قلوبهم، ثم أنهينا الخطبة وصلّينا.
في المساء كنت أبيع الأطباق والأكواب، فوقفت أمامي فتاة ليبية مع أمّها. جمالها الهادئ كان لافتًا، وكنت أساعد الأم بينما عيني تقع عليها رغمًا عني. قالت الأم شيئًا ورددتُ عليها، فالتفتت الفتاة نحوي ونظرت نظرة عميقة وقالت: “آه”.
لحظة قصيرة لكنها ظلت راسخة في ذاكرتي، حتى صار ذلك المزيج من الجمال والتلقائية والبراءة مقياسًا للأنوثة عندي لفترة طويلة. كنت أتوقع عودتهما، لكن المعرض انتهى ولم أرهما بعدها، وبقيت تلك الومضة حاضرة كنيازك صغيرة تترك أثرًا لا يُمحى.
كلما عادت هذه اللقطة إلى ذاكرتي شعرت بالمتعة نفسها. لا أعرف سبب رسوخها، ولا أحاول تفسيره؛ فبعض المشاعر يكفي أنها بقيت حيّة.
نرفانا
كنت في صالة الانتظار بفندق مكة بالإسكندرية، طالبًا بالسنة الثالثة، أنتظر أستاذي خالد محمد خالد. رأيت طفلة يحملها والدها، جمالها يكاد يوقف العالم. تقدّمتُ واعتذرت للرجل وقلت إن ابنته جميلة جدًا، فسألته عن اسمها فقال: نرفانا.
استأذنته أن أقبّلها، فأمالها ناحيتي، ولمستُ خدّها برقة. ضحك أصحابي، لكن أستاذي لم يسخر، بل رأى في ذلك رهافة حس.
بالنسبة لي، كانت نرفانا رمزًا للجمال الخالص، المعنى الذي ظللت أطارده طوال حياتي، وأحاول رؤيته في كل شيء، كلمحة صغيرة من عالم أعلى لامست روحي مرة واحدة.
لمتابعة الجزء الأول من هذا المقال اضغط على الرابط التالي 👇
شهرزاد
