أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): انتش واجرِي يا إنسان

في أحد الأيام جلستُ على مقهى شعبي في الشيخ زايد أستمتعُ بدفء شمس الشتاء، ثم اشتريتُ طعامًا، تجمع على رائحته بضع قطط. وكلما رميتُ قطعة من الأكل تسابقت القطط غريزيًا وزمجرت لبعضها البعض. كل قطة تحاولُ أن تخطف العظمة قبل غيرها. وترى أنها أولى من الأخرى التي قد تكون أمها أو أختها الصغيرة.

ابتسمتُ وكررتُ اللعبة. كنتُ ألوح بيدي في اتجاه معين فتسرع القططُ إلى هناك ثم يصدمها أنني لم ألق لها شيئًا!  كان مجرد وهم الحركة الآلية يستنفرُ غريزتها الفتاكة. إنها غريزة مزدوجة من الجوع والطمع.

كثيرًا ما تكرر معي موقف مثل هذا. وذات مرة كنت في ساحة أمام مطعم تتوفر فيها بقايا طعام من لحوم وأسماك بسخاءٍ يكفي عشرات القطط، مع ذلك وجدتها تتصارع فلا يرحم القوي ضعيفها. كأن فكرة العدالة أو إعطاء فرص لآخرين شبه معدومة.. كأن الغريزة لا تفهم منطق العدالة، ولا تعرف بوجود رب رحيم كريم وفر للجميع ما يكفي. فالمأزق ليس في سد الجوع، وإنما في ذلك الخوف الغريزي من حدوثه. فالقط الشبعان أكثر رعبًا من الجائع.

بشر وقطط

هل يختلف منطقنا نحن البشر عن القطط؟

من فترة استوقفتني سيرة رجل أعمال توفي في السجن، بعد اتهامه في قضية أخلاقية مشينة، ولفت نظري أنه بدأ حياته مغتربًا براتب بسيط، ثم صنع ثروة ضخمة، الله وحده يعلم مصادرها، وأصبح ملء السمع والبصر، لديه صحف وقنوات وقصور وخدم وحشم، ثم ترك كل شيء وذهب عاريًا إلى مولاه كما جاء عاريًا. ثم شاهدتُ وثائقيًا من عدة حلقات عن رجل أعمال أمريكي من لا شيء أصبح مليارديرًا يفوق رجل الأعمال المصري ثراء، ويمتلك جزيرة يؤمها ملوك ورؤساء ومشاهير، وأيضًا اتهم في قضية أخلاقية مشينة، وقضى نحبه في السجن.

امتلك الرجلان ما يفوق أحلام معظم البشر، مع ذلك انتهى كلاهما إلى ضيق السجن، والتشهير بالسمعة، ثم الموت والنسيان.

المأزق ليس في سد الجوع، وإنما في ذلك الخوف الغريزي من حدوثه. فالقط الشبعان أكثر رعبًا من الجائع.

وجدتني أتأمل في القصتين وأسأل نفسي: ما الذي يجنيه الإنسان من جريه في الحياة خوفًا وطمعًا؟ ماذا يكسب بعد أن ينال المال والشهرة والسلطة والنفوذ والجنس؟ ويغني “انتش واجري”!

ألسنا جميعًا مثل هذين الرجلين بدرجات، نجري جريهما في الحياة الدنيا؟ ما الفرق بيننا وبين القطط والتماسيح والثعالب والنوارس؟ نحن جميعًا ضحايا غريزتنا بدرجة ما، ونعيش في عالم مُصمَم على الجوع والافتراس.

وقد ازداد الأمر سوءًا مع هيمنة نظام استهلاكي قائم على التلاعب باحتياجاتنا على مدار اللحظة، فاللحوم معبأة وشهية، والروائح زكية، وكلما ارتفع السعر يجن جنوني وجنونك.. ومحال البقالة باتت على مساحة أفدنة مترامية تعرض بذكاء ما لا يخطر بالي ولا على بالك.. يغويك ويغريك.. طعوم جذابة تدفعك للإدمان بغض النظر عن قيمتها الغذائية.. لأن حقيقتها تقوم على بيع الوهم لا ضمان الصحة.

الآخر المحروم

من الطبيعي أن ينظر القط المحروم بكراهية إلى القط الفائز بالعظمة.. وأن ينظر إليك بحقد وحسد، ذلك الفقير الجالس على حافة الطريق في برد الشتاء، بينما أنت تمر بسيارتك مع أطفالك عائدين تمرحون وتأكلون “البيتزا”، في حرص تام على استبقاء السعادة لك وحدك أنت وأسرتك داخل سيارتك المسرعة ولن ترى ذلك الفقير أبدًا.

من الطبيعي أن يمر الفقراء وهم ينظرون من خلف باصاتهم المزدحمة على التجمعات السكانية الراقية، ويحسبون أن الجنة هناك خلف تلك الأسوار الإسمنتية المحرمة عليهم.

يعرف البشر عظمة الرحمة وقيمة السلام، مع ذلك لا تنقطع الحروب فيما بينهم، ولا يتوقفون عن قتل بعضهم البعض. لماذا؟ لأن عبادتهم للقوة تفوق إيمانهم بالرحمة. ولأن غريزة القنص والافتراس أشد ضراوة من قناعتهم بالمحبة والسلام.

وحش الاحتياج

حتى لو سددتَ احتياجاتك الضرورية بشقاء وشرف لن يتوقف النظام الاستهلاكي عن مطاردتك في الاعلانات والسوشال ميديا، يخوفك شبح الجوع.. يذكرك باحتياجات أخرى لم تخطر على بالك ولم تمتلكها بعد.. يريك فنانين ولاعبين ومشاهير وهم في الملاهي والمسابح والفنادق الفخمة… فهل هم أفضل منك ومني؟

ألم يقل أمثالنا قديمًا “يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ” (القصص/79)؟ يربي هذا النظام في داخلي وداخلك وحش الاحتياج… فمهما ملكت ستظل عبدًا لما ملكته.. وعبدًا لما لم تملكه بعد. ومهما شبعت لن تعرف حمدً الله لأنك محاصر بأنواع لا نهائية من الجوع الوهمي. والسلطة نفسها تفهم غريزتك وتدرك كيف تلقي عظمة واحدة لعشر قطط كي تبدد طاقاتهم في الصراع عليها إلى ما لا نهاية.

وربما من أصعب الأشياء على أنفسنا أننا لا نستطيع أن نتحرر كليًا من فكرة “إشمعنى/ ليه/لماذا؟” لماذا نال فلان جائزة وأنا لا؟ لماذا أصبحت فلانة عضو كذا وأنا لا؟ لماذا يتلقى فلان دعوات سفر إلى مهرجانات ومؤتمرات وأنا لا؟ لماذا اشترى فلان لابنه سيارة ثمنها كذا وأنا لا؟ وفلان مستشار في عشرين منصبًا وأنا لا أحد يستشيرني!

إنها مسألة لا تتعلق بالحقد ولا الحسد فقط، وهما غل ضد الآخر وتمني زوال النعمة عنه. بل هي في عمق شعورنا الداخلي بالجدارة وأننا أفضل من غيرنا وأكثر استحقاقًا منه. إنه شعورنا العميق جدًا بالنقص والاحتياج حتى لو كان وهمًا.

ما الفرق بيننا وبين القطط والتماسيح والثعالب والنوارس؟ نحن جميعًا ضحايا غريزتنا بدرجة ما، ونعيش في عالم مُصمَم على الجوع والافتراس.

عبادة القوة

يعرف البشر عظمة الرحمة وقيمة السلام، مع ذلك لا تنقطع الحروب فيما بينهم، ولا يتوقفون عن قتل بعضهم البعض. لماذا؟ لأن عبادتهم للقوة تفوق إيمانهم بالرحمة. ولأن غريزة القنص والافتراس أشد ضراوة من قناعتهم بالمحبة والسلام.

لقد أدرك أينشتاين بوعيه الفلسفي أن الكون في حركة دائبة، الأرض والشمس والأجرام، والإنسان مثل راكب درّاجة لكي يحافظ على اتزانه عليه أن يستمر في “الحركة”. هذا صحيح، لكن حركة الإنسان وسعيه، ربطتها الحضارة الغربية بالمنطق المادي، بحيازة القوة (السلاح/ الثراء/ الأرض/المواد الخام) وإضعاف الآخرين وافتراسهم.

يُنسب إلى ماركس قوله: “الرأسمالية ستحول الحياة إلى عملية ركض متواصل ينسحق فيها تحت الحشود من يتوقف ليلتقط أنفاسه”.. يصور ماركس هنا حتمية الركض والصراع الطبقي، بمنطق البقاء للأقوى وليس للأكثر محبة ورحمة.

هل من مسار آخر؟

يقول المثل الشعبي: “اجري يا ابن آدم جري الوحوش غير رزقك لم تحوش”.. لا يختلف معنى المثل كثيرًا عن مقولة الحسن البصري عندما سئل عن سر زهده في الدنيا فقال: أربعة أشياء: علمتُ أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمتُ أن رزقي لا يذهب إلى غيري فاطمأن قلبي. وعلمتُ أن الله مطلعٌ علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددتُ الزاد للقاء ربي.

الحكمة نفسها نقرأها عند إبراهيم بن أدهم عندما وجد رجلًا مهمومًا فقال له: أيها الرجل إني أسألك عن ثلاث تجيبني. قال الرجل: نعم. فقال له إبراهيم: أيجري في هذا الكون شئ لا يريده الله؟ قال :لا.. قال إبراهيم: أفينقص من رزقك شئ قدره الله لك؟ قال: لا.. قال إبراهيم: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله في الحياة؟ قال: كلا.. فقال له إبراهيم بن أدهم: فعلام الهم إذن؟ ونضيف إلى سؤاله: فعلام ركض الوحوش إذن؟

يتكرر المعنى ذاته في الحديث القدسي: “وإن لم ترض بما قسمتُ لك، فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك فيها إلا ما قسمتُ لك، وكنتَ عندي مذمومًا” وقيل إنه من كلام الوعاظ.

ولا أنسى ما روته لي جدتي بهية -رحمات الله عليها- ذات مرة، وهي حكاية غريبة لا أتذكرها جيدًا. ربما كانت عن حاكم أطلق محكومًا عليه بالموت وقال له: كل أرض تجتازها ستصبح ملكك.. فظل السجين يجري ويجري.. ويجري.. وهو يُمني نفسه بما سوف يمتلكه من الأراضي.. وفي اللحظة الأخيرة سقط ميتًا ودفن حيث سقط.. لم ينل من الدنيا إلا مترين جمعا عظامه.

صورة تعبيرية

 

العجيب أن تلك القصة نفسها قرأتها لاحقًا في قصة شهيرة لتولستوي عنوانها “كم هو نصيب الإنسان من الأرض” (كتاب بدائع الخيال) أو “كم فدانًا يحتاج الرجل؟” تروي حكاية فلاح طماع يدعى “باهوم/باخوم” كان عبدًا فقيرًا وأغناه الله، لكنه ظل يطمع في المزيد، وتجسد له الشيطان في صور شتى يغريه بشراء الأفدنة في بلدان أخرى، بأموال زهيدة، حتى انتهى إلى قرية نائية، قال له أصحابها إنهم يبيعون الأرض بألف روبل فقط، لكنهم يقيسونها باليوم وليس بالفدان. بمعنى أنك تنال كل مساحة تستطيع أن تصل إليها ركضًا، وتضع عليها علامة، بشرط أن تعود إلى أهل القرية قبل غروب الشمس. هكذا ركض الرجل من شروق الشمس، وكلما بلغ مساحة وضع علامة امتلاكه لها، حتى أوشكت الشمس أن تغرب، فعاد يركض خائز القوى، ثم سقط ميتًا تحت أرجل القوم. فقام خادمه وحفر لسيده قبرًا يبلغ طوله ستة أقدام، وكان ذلك كل نصيبه من الأرض!

بهذا السطر أنهى تولستوي قصته التي اعتبرها جيسم جويس أعظم قصة. ولا أعرف كيف وصلت قصة كاتب عظيم من روسيا إلى ذاكرة جدتي الفلاحية في شمال الدلتا؟ إلا أن يكون لها أصل في التراث العربي والإسلامي!

على أية حال؛ بإمكان المرء أن يمضي في مسار غريزة القطط الذي وصفه ماركس وجسده تولستوي ساخرًا، أو يتخذ مسار الحسن البصري وإبراهيم بن أدهم.

لكن هل معنى الاطمئنان إلى قدر الله ورحمته أن يتقاعس المرء عن الحركة في الحياة؟

ربما الأفضل أن يسعى ويخليها على الله، ولا ينسى مقولة سمنون المحب: “التصوف ألا تملك شيئًا ولا يملكك شيء”.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *