عدت قبل أيام قليلة من الجونة بعد حضور فعاليات الدورة السادسة -الاستثنائية- من مهرجان الجونة السينمائي الدولي، وكانت بالفعل استثنائية على مستويات عديدة، فبسبب الظروف المحيطة بها إقليميا نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتوحشة على غزة وحرب الإبادة التي تمارسها هناك، تم تأجيل إقامتها مرتين حتى أقيمت بالفعل بعد موعدها المحدد بحوالي شهرين، وتمت إضافة برنامج للسينما الفلسطينية، وكذلك تم إلغاء كافة المظاهر الاحتفالية والالتزام بكود خاص بملابس الحضور في الافتتاح والختام سيطر عليه اللون الأسود.
صفة الاستثنائية في الدورة لم تكن على المستوى العام فقط بل كانت دورة استثنائية لي أيضا بشكل شخصي جدا، أولا لأنني كنت عضوا -للمرة الأولى- في لجنة تحكيم مسابقة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، وثانيا لأنني اضطررت للغياب عن الافتتاح وأول يومين من أيام المهرجان بسبب ظروف مرض والدتي وكدت بسبب ذلك أعتذر تماما عن حضور الدورة وعن لجنة التحكيم، لولا أنها شخصيا وفي عز مرضها الذي أدعو الله أن تتعافى منه تماما قريبا، أذنت لي بالسفر للانتهاء من مهمتي.
اللجنة
قبل الحديث عن الأفلام التي شاهدناها كلجنة تحكيم الفيبريسي في هذه الدورة، أود الحديث عن زميلي في اللجنة وهما الناقدة المتميزة والنشيطة “أولا سالوا” من بولندا، والناقد والإذاعي ستيفن أسبلينج من جنوب أفريقيا. وأود عبر هذا المقال شكرهما للدعم والمساعدة النفسية التي قدماها لي طوال فترة المهرجان، بل ومن قبله وبعده، بسبب الظروف التي أمر بها، وثانيا للطف والتعاون الذي أبدياه في فترة عملنا معا في تحكيم الأفلام، وهو ما ميّز هذه اللجنة بقدرة كبيرة على التفاهم في إطار حقيقي من الود والاحترام.
شاهدنا كلجنة تحكيم سبعة أفلام متنوعة، 6 منها من آسيا وفيلم وحيد من أفريقيا، تنوعت اتجاهاتها بل ونوعيتها فكان من بينها الروائي والوثائقي، وهذه الأفلام كانت الفيلم الروائي “وداعا جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفان، “هوليوودجيت” أو “بوابة هوليوود” وهو فيلم تسجيلي ألماني الإنتاج، للمخرج المصري إبراهيم نشأت، “لو أستطيع فقط السبات”، روائي، للمخرج المنغولي زولجارجال بورفداش، “سعادة عابرة”، وهو فيلم روائي من كردستان العراق للمخرج سينا محمد، “ق” وهو فيلم وثائقي لبناني للمخرجة جود شهاب، وفيلم “الموت والحلم” من سنغافورة للمخرج زو شنج منج، وأخيرا فيلم “همسات النار والماء”، روائي من الهند للمخرج لوبدهاك تشاترجي.
وعلى الرغم من هذا التنوع الشديد والاختلاف الواضح بين طبيعة ونوعية الأفلام ولكن جمع بينها مشتركات أهمها من وجهة نظري انتصارها للإنسانية والتقاطها لنماذج هامشية بعيدة عن الأضواء لا تظهر في وسائل الإعلام إلا كأرقام ضحايا لن يتوقف عندها الكثيرون.
وربما يتضح من خلال السطور التالية التي سأقدم من خلالها عرضا سريعا للأفلام السبعة ما أقصده بالتشابهات والنقاط المشتركة بينها.
وداعا جوليا
حصل على جائزة “سينما من أجل الإنسانية”
على الرغم من أنه العمل الأول للمخرج والمؤلف محمد كوردفاني فإنه استطاع تقديم عمل فني عالي الجودة. يتميز بكل ما يحتاجه الفيلم الجيد من سيناريو متماسك ممتلئ بالصراعات والمشاعر الإنسانية، وهناك سيطرة تامة على كل عناصر اللعبة، من تصوير وتمثيل ومونتاج.. إلخ
فيلم يضعك مباشرة في قلب الصراع ويجعلك تفهم الكثير مما قد لا تعرفه عن ما يحدث في السودان، يوضح الأسباب والظروف التي أدت إلى انفصال جنوب السودان عن السودان، ويشرح الكثير عن أزمات كالعنصرية التي عانى ويعاني منها ذلك المجتمع وأدت إلى ما حدث ويحدث هناك حتى اليوم، وكل ذلك بلغة سينمائية بعيدة عن الخطابية والمباشرة.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تم تصوير الفيلم خلالها في السودان التي كانت ومازالت تعاني من ويلات الانقسامات والحروب الأهلية والثورات فإن كل ذلك لم يؤثر على عزيمة فريق العمل واستكملوا فيلمهم على أكمل وجه وكأنه لم يواجهوا أية مشاكل.
الفيلم يستحق الإشادة على كل المستويات، ولا أبالغ إن قلت إنه واحد من أجمل الأفلام التي رأيتها هذا العام، بل هو الأفضل على مستوى أفلام الشرق الأوسط وأفريقيا.
لو كان بإمكاني السُّبات
فاز بطله باتسوغ أورتسيخ جائزة أفضل ممثل ضمن جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة
ما أصعب أن تخلق البهجة والأمل والحب من قلب المعاناة! هذا بالتحديد ما استطاع هذا الفيلم الجميل أن يقدمه، فهو قطعة جميلة من الفن الراقي، نقل لنا ببراعة هذه المأساة التي تعيشها أسرة فقيرة في إحدى المدن الإقليمية في دولة منغوليا، دون أن ينخرط في المأساة إلى النهاية أو أن يجعلها ميلودراما زاعقة، بل حرص الفيلم على أن يكسر الاندماج في المأساة باستمرار عن طريق أغنية أو لعبة أطفال محلية أو مواقف مبهجة كالتزلج على الجليد أو غيرها، كما استمر في التأكيد على أن الأمل موجود في صنع حياة أفضل لهذه الأسرة عن طريق ابنها المراهق الذي يتمتع بكل المواصفات كإنسان طموح دون أن يسقط الفيلم في فخ المبالغة أو تصوير هذا البطل المراهق على أنه ملاك لا يخطئ، بل هو يعيش مراهقته بكل جموحها، كما أنه لا يتخلى أبدا عن مسئوليته التي حملها على عاتقه مرغما أو راضيا.
الفيلم جميل على كل المستويات ونجح في تصوير الطبيعة القاسية في منغوليا من حيث البيئة والطقس الصعب جدا في الشتاء والفقر الشديد الذي تعاني منه كثير من الأسر، وليست الصورة فقط التي كانت جيدة بل كان شريط الصوت كذلك مميزا جدا. أما الأبطال الصغار: المراهق وشقيقته وشقيقه فإنهم كانوا رائعين مما يدل على المجهود الكبير الذي بذله المخرج لإظهارهم بهذا الشكل المتقن.
سعادة عابرة
فازت بطلته رفين رجبي جائزة أفضل ممثلة ضمن جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة
إيقاع هادئ، لقطات ثابتة تستمر لثواني بل لدقائق عديدة على الشاشة، وكأنها لوحات تشكيلية مرسومة بعناية تصور الطبيعة الخلابة لتلك المنطقة الريفية النائية في كردستان العراق، تقريبا بلا أي استخدام لمصادر الإضاءة باستثناء المصادر الطبيعية، وبأداء تلقائي عفوي من الممثلين كأنهم غير محترفين.
وعلى الرغم من كل هذا الهدوء وهذا السلام الذي يغلف مشاهد هذا الفيلم الذي يصور الحياة البسيطة غير المعقدة لمربي ماشية وزوجته من كردستان العراق، رغم ذلك فإن الفيلم يورطنا في قلب الأحداث والأحزان التي تواجهها هذه البقعة المسالمة من العالم في كردستان العراق، حيث لا تتوقف الاعتداءات عليها من الدول المجاورة وخصوصا تركيا، حيث نعرف من صوت نشرات الأخبار كيف تصيب القنابل الأبرياء من سكان هذه القرى المسالمة.
فيلم جميل يقول كل شيء بلا صخب، إلا صخب صوت الطائرات المغيرة التي يظهر كل حين ليذكرنا أن الخطر قائم، وأن هؤلاء المسالمين ليسوا بعيدين عن الموت على الرغم من أنهم لم يفعلوا أي شيء إلا العيش في سلام، ولكن حتى هذا لن يرحمهم.
يقول أحدهم: “لقد عشنا، لكن الحياة بصراحة كانت شيئًا آخر، كل يوم نرى موت من أحببناهم، لكننا لم نتوقف عن ري حدائقنا”.
إنهم أناس مسالمون يكفيهم من الحياة لحظات سعادة ولو عابرة.
همسات النار والماء
فيلم هادئ الإيقاع جدا، يتميز بصورة جميلة لطبيعة خلابة وصعبة في الوقت نفسه. هو فيلم بطولة الصوت بلا شك، اسمه دال جدا على ما نتوقعه منه، ولكنه لا يستمر على الإيقاع أو الطريق الذي يسلكه طوال الوقت، وإنما يتحول ويتغير في المنتصف، بما جعلني أشعر أحيانا بارتباك المخرج وعدم قدرته على تحديد ما يريده تماما من فيلمه، ولا ما الرسالة التي يريد توصيلها، باستثناء الرسالة المباشرة التي تشير إلى كم المعاناة الكبير الذي يعانيه هؤلاء الذين يضطرون للعمل والحياة في هذه الظروف القاسية في المناجم النائية شرق الهند، والتي لا يعلم عنها أغلب العالم شيئا.
في كل الأحوال هو فيلم مبذول فيه مجهود كبير جدا حتى يتم تنفيذه، ويستحق التحية على هذا المجهود والنتيجة النهائية التي خرج بها شريطا الصورة والصوت على حد سواء.
الحلم والموت
في مساحة بين الواقع والأحلام والخيال والأساطير والتجريب تدور أحداث فيلم “dreaming and dying”. هو فيلم عن الحب والماضي الذي نعتقد أنه انتهى ولكنه يظل يطاردنا للأبد ويعيش بداخلنا، بل وربما يحرمنا من الحياة الواقعية نفسها ونعيش بسببه في عالم موازي.
ربنا تبدو الأحداث غريبة بعض الشيء ولكن ما يخفف من حدة ذلك هو أن المشاعر الإنسانية واحدة مهما اختلفت الثقافات. الفيلم غريب أيضا في الأبعاد التي تم تصويره بها، فالصورة مربعة تقريبا على عكس ما اعتدنا على مشاهدته في السنوات الأخيرة. ومن مناطق الغرابة والتجريب في الفيلم أيضا كان أن التترات أو أسماء فريق العمل ظهرت بعد أكثر من 27 دقيقة من بداية الفيلم، ما يجعلها واحدة من أطول فترات ما قبل التترات التي شاهدتها في الأفلام، وربما تكون الأطول على الإطلاق.
بشكل عام الفيلم جيد وإنساني ومتميز جدا على مستوى التمثيل من الممثلين الثلاث الذين لا يظهر غيرهم في الفيلم، كما أبدع المخرج ومدير التصوير في إظهار الطبيعة ولكن بألوان هادئة ومحايدة وليست مشرقة، تتناسب تماما مع الحالة النفسية للأبطال.
ق
فيلم تسجيلي ذاتي يدور حول شخصية أساسية وهي “هبة” التي انخرطت لسنوات طويلة من عمرها في جماعة دينية شبه سرية تتزعمها امرأة، كانت هبة تعشقها إلى حد الجنون، وعلى الرغم من ذلك نكتشف تدريجيا ولكن بشكل غير مباشر كيف أن هذه “الجماعة” وهذه الزعيمة قد آذوها كثيرا جدا..
الفيلم تصوره الحفيدة، والشخصية الرئيسية هي أمها “هبة”، والشخصية الثالثة في الفيلم هي الجدة التي أحبت وشجعت ابنتها على الانضمام لهذه “الجماعة”..
في رأيي الفيلم جيد في مناطق وضعيف وممل في مناطق أخرى، وكان يفتقد التماسك في هذه الأجزاء. ولكن أجمل ما فيه حقا هو الشخصية الرئيسية المحبة للحياة والتي كانت تمتلك الكثير من المواهب ورغم ذلك ضحت بها من أجل “الجماعة”.
بوابة هوليوود
فاز بجائزتي الاتحاد الدولي للنقاد “فيبريسي”، ونجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي
فيلم وثائقي شجاع وذكي يحكي عن الوضع في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية منها، وسر شجاعة الفيلم في الوقت نفسه أن مخرج ومصوره في نفس الوقت لم يكن يملك لا خططا ولا حرية في التصوير كيفما شاء، بل كان يصور طوال الوقت وهو تحت تهديد القتل، ليس مجازا ولا تهديدا بل قتل حقيقي يمارسه رجال طالبان ضد أي معارض لهم أو من يشكون في خيانته. أما الذكاء فهو في كيفية التعامل مع كل هذا الكم من المادة التي تم تصويرها ليخرج في النهاية فيلم متماسك يوصل بشكل واضح حجم المأساة التي تعيشها الدولة الأفغانية حاليا، وحجم الكارثة التي تسبب فيها انسحاب القوات الأمريكية بهذه الطريقة، تاركة معدات وأسلحة وطائرات بمليارات الدولارات سهلت كثيرا مهمة طالبان في التحول من مليشيا إلى جيش نظامي كبير.
أهم عناصر قوة الفيلم بجانب ما سبق المونتاج والتصوير بالطبع. أما أهم سلبيات الفيلم فهي وجود بعض مناطق الملل التي امتدت وتكررت وخصوصا في النصف الأول من الفيلم، كما اختفى بشكل مفاجئ شخصية أساسية -أحد مساعي قائد القوات الجوية- وهو واحد من شخصيتين فقط اهتم الفيلم بتصويرهما على مدار العام، وكان من المهم معرفة مصير هذه الشخصية.
حيثيات الفوز
الفيلم الفائز إذًا بجائزة لجنة تحكيم الاتحاد الدولي للنقاد كان فيلم “بوابة هوليوود” للمخرج المصري إبراهيم نشأت المقيم في ألمانيا، وجاء ذلك بعد منافسة حقيقية مع أفلام “وداعا جوليا” و”لو كنت أستطيع السبات” و”سعادة عابرة”، وكلها حصلت على جوائز أخرى في مسابقات المهرجان المختلفة، دون أن يقلل ذلك من قيمة بقية الأفلام ولكن في رأي اللجنة أن هذه الأفلام كانت الأقوى، أما حيثيات الفوز التي تم إعلانها أثناء تسليم الجائزة وتم نشرها على موقع الاتحاد الدولي للنقاد فكانت:
“هذا الفيلم الوثائقي الحربي الجريء والمقلق والمحفز للتفكير يضفي طابعا إنسانيا على أمراء الحرب كمسعى فني لا يعرف الخوف يوضح كيف يمكن استخدام الكاميرا كسلاح في ساحة معركة الحقيقة.”
عرض مشوق يدفع إلى مشاهدة الأفلام
عرض مشوق يدفع لمشاهدة الأفلام
عرض رائع لمجموعة من افلام من آسيا وافريقيا مع تحليل لكل فيلم .. الف مبروك لنا ولدين العابدين خيري على هذا العزض وعلى تشريفنا جميعا في مهرجان افلام الجونة.