أحدث الحكايا

أميرة دكروري تحكي: الحرب ليست على الأرض فقط.. هكذا تدار المعارك الإلكترونية

مع تسارع الأحداث الدامية، وعمليات الإبادة التي تحدث في فلسطين حاليًا، ومع تزايد أعداد الشهداء يوميًا بل في كل ساعة ومتابعتنا لذلك لحظة بلحظة من خلال الفيديوهات والأخبار القادمة من قطاع غزة، فكرت ماذا لو لم يكن هناك وسائل تواصل اجتماعي اليوم؟ هل كان من الممكن تخيل كم دموية وبشاعة هذا الاحتلال ضد الفلسطينيين، وحجم الاعتداءات السافرة التي تتم يوميا سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية؟ هل هذه بالفعل الفرصة الذهبية لإعادة سرد الحقيقة التاريخية لفلسطين للعالم التي زيفها الاحتلال لعقود طويلة؟

هذه الأسئلة بدت بديهية عندما خطرت لذهني، لكن تأكدت أهميتها مع متابعة استخدام الاحتلال الاسرائيلي لوسائل التواصل الاجتماعي، التي تباينت ما بين منشورات ممنهجة، واستخدام للمؤثرين لترسيخ سردية مزيفة صنعها عن التاريخ وعن المقاومة، لكن ما يحدث لأول مرة في الحروب والنزاعات هو لجوء اطراف الصراع إلى إعلانات ممولة من الحسابات الرسمية. ما يضع استخدام السوشيال ميديا والقوانين الدولية للمواقع الرقمية محل تساؤل، والأهم هو أنه يضعنا أمام حقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد ترفًا يمكن الاستغناء عنه وإنما حرب موازية لابد من كسبها. 

EDITORS NOTE: Graphic content / People standing on a rooftop watch as a ball of fire and smoke rises above a building in Gaza City on October 7, 2023 during an Israeli air strike. – At least 70 people were reported killed in Israel, while Gaza authorities released a death toll of 198 in the bloodiest escalation in the wider conflict since May 2021, with hundreds more wounded on both sides. (Photo by MAHMUD HAMS / AFP)

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي

بدأت حكاية متابعتنا للحروب والنزاعات الكبرى بشكل مباشر لما يحدث منذ نحو 20 عامًا، فيعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003 من أولى الحروب التي نقلت مباشرة عبر الفضائيات، واستطاع الناس متابعة ما يحدث أولا بأول من خلال وسائل الإعلام المختلفة وطرق أو أساليب تغطيتها.

ومع التطور التكنولوجي أصبحت المتابعات أكثر آنية وسرعة خاصة مع دخول التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي للمعادلة، فلم تعد وسائل الإعلام هي الطريقة الوحيدة لنقل الأحداث وإنما أمكن للناس أنفسهم نقل ما يحدث أمامهم من خلال هواتفهم، ما يضعنا في صورة لم تكن أبدًا أكثر قربًا من الآن.  

في فبراير 2022، مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، كان أول ظهور حقيقي لتأثير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ليس في نقل الاحداث وحسب، وإنما في الترويج لوجهات نظر طرفي الصراع، بل وفي تبني وجهات نظر معينة، مثل حجب الحسابات الروسية عبر منصة فيسبوك ومنع صناع المحتوى الروس من نشر أي إعلانات تابعة لهم بجميع أنحاء العالم، وإعلان العديد من منصات التواصل الاجتماعي الأخرى وقف نشاطها بالكامل داخل روسيا بما في ذلك تويتر وسناب شات، وهو ما تم الرد عليه بحجب كافة هذه المنصات في روسيا وطرح منصة تواصل اجتماعي روسية جديدة في نطاقها.

خبر صحفي عن حجب الحسابات الروسية

فيديو: عن حجب الحسابات الروسية 

كانت هذه أول حرب إلكترونية بهذا الوضوح في أوقات الحروب. وفي محاولة لفهم حجم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين أو الـ influencers بشكل خاص يمكن العودة إلى تقرير الإعلام الرقمي السنوي الصادر عن “رويترز” هذا العام 2023 الذي يقول: 

“لعل النتائج الأكثر إثارة للدهشة في تقرير هذا العام تتعلق بالطبيعة المتغيرة لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي تتميز جزئيا بانخفاض التفاعل مع الشبكات التقليدية مثل فيسبوك وصعود تيك توك ومجموعة من الشبكات الأخرى التي تعتمد على الفيديو. ولكن على الرغم من هذا التفتت المتزايد للقنوات، وعلى الرغم من الأدلة التي تشير إلى أن القلق العام بشأن المعلومات المضللة والخوارزميات بلغ مستويات غير مسبوقة، فإن اعتمادنا على هذه المنصات مستمر في النمو. تُظهر بياناتنا، بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، كيف يتأثر هذا التحول بشدة بعادات الأجيال الشابة، التي نشأت مع وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الوقت الحاضر غالبًا ما تولي اهتمامًا للأشخاص المؤثرين أو المشاهير أكثر من اهتمامهم بالصحفيين، حتى عندما يتعلق الأمر بالأخبار”.

جانب من التقرير

 

بالتالي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بات واحدًا من أهم أدوات الصراع التي لا تقل أهمية أو تأثيرًا عن الصراع العسكري. ومع حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال إسرائيل على قطاع غزة، ومع إدراك إسرائيل لأهمية جذب التعاطف والتأييد من المجتمع الغربي تستخدم هي كذلك السوشيال ميديا عبر حساباتها ومؤثريها. ففي جانب آخر من التقرير تأكد انخفاض الثقة في الأخبار من مصادرها بمقدار 2% عن العام الماضي الذي كان قد قل عما قبله بالفعل، ما أدى إلى عكس المكاسب التي تحققت في العديد من البلدان بخصوص الثقة في وسائل الاعلام في ذروة جائحة فيروس كورونا. بالتالي فإن الأخبار عبر منصات التواصل الاجتماعي أو التأثير من خلالها أصبح ضرورة، وهو نهج اتبعته اسرائيل على وجه التحديد منذ 2012.

إعلانات مدفوعة للمرة الأولى 

“لقد هزم العالم داعش.. العالم سيهزم حماس” هذه كانت إحدى العبارات التي فوجئ بها رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الدول الأوروبية ضمن إعلان دعائي على موقع يوتيوب يتخلل ما يشاهدونه، وسرعان ما تكررت على شكل إعلانات مختلفة بأشكال مختلفة، بعضها موجه للكبار والآخر للأطفال، هدفها هو ترسيخ صورة واضحة تروج لها إسرائيل في محاولة لجذب الدعم والتعاطف الغربي. 

فيديو: عن الإعلانات الإسرائيلية الممولة 

جانب من الإعلانات الإسرائيلية

 

تعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها الدفع بالعشرات من الإعلانات الممولة من حسابات رسمية في ظروف ووقائع مماثلة، فالإعلانات عبر جوجل صدرت من حساب وزارة الخارجية الاسرائيلية، فبالرجوع إلى مركز جوجل للاعلانات “Google Ad Transparency Center”، والمعني بكل الاعلانات المدفوعة عبر منصات جوجل المختلفة، نجد أنه تم الدفع بـ 91 إعلانا حتى يوم 23 أكتوبر 2023، عبر منصة الفيديوهات الأشهر يوتيوب.

بيان بعدد الإعلانات الممولة على جوجل من حساب وزارة الخارجية الإسرائيلية

 

ولا يتيح جوجل معلومات أكثر عن الاعلانات قبل مرور 90 يومًا على بث الإعلانات، إلا إن الصحفية البريطانية صوفيا سميث استخدمت موقعا آخر يسمى “semrush”، ووجدت أن تكلفة الإعلانات الإسرائيلية عبر يوتيوب تجاوزت سبعة مليون دولار على جوجل فقط، والحسابات اللي وصلها الإعلانات هذه قدرت بحوالي مليار حساب مختلف.  

بيانات الإعلانات الإسرائيلية الموجهة للدول المختلفة مع تكلفتها

 

هذه الإعلانات وُجهت بشكل رئيسي إلى دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والممكلة المتحدة، فكما نرى في الرسم التالي نجد أن أكثر من 50 % من الإعلانات وُجهت إلى حسابات فرنسية حيث بلغ عدد مشاهدات الإعلان نحو 443 مليونا و400 ألف حساب، تلتها ألمانيا بحوالي 26% من الحسابات، ثم المملكة المتحدة بـ 15% من نسبة الإعلانات تلتها بلجيكا ثم الولايات المتحدة الأمريكية. 

بيانات الإعلانات الإسرائيلية الموجهة للدول المختلفة

 

يذكر أن هذه الإعلانات تجاوز عددها الـ 200 إعلان عبر منصة يوتيوب حتى يوم 11 نوفمبر 2023، بالتالي هذه الأرقام تزايدت بشكل كبير سواء في الإنفاقات أو الحسابات التي تعرضت لهذه الإعلانات.

أيضًا ظهرت العديد من الإعلانات الأخرى عبر منصة إكس (تويتر سابقًا) من الحساب الرسمي لإسرائيل تُظهر صورًا لقتلى إسرائيلين وأماكن تعرضت للقصف، ما أحدث جدلا بين رواد منصة إكس، إذ استغرب البعض فكرة وجود إعلانات ممولة من حسابات رسمية للترويج لمشاهد عنف واعتداء، خاصة وأن بعض هذه المنشورات وصل إلى عشرات الملايين من الحسابات في الدول الأوروبية المختلفة. 

جانب من الإعلانات الممولة عبر منصة إكس (تويتر سابقًا)
جانب من الإعلانات الممولة عبر منصة x (تويتر سابقًا)

 

وأشار موقع بيزنس إنسايدر لإعلانات مماثلة عبر ألعاب الموبايل مثل لعبة angry birds الشهيرة وبعض الألعاب المماثلة، ما أثار استياء البعض بسبب تعرض أبنائهم لمشاهد دموية تضمنتها هذه الفيديوهات الممولة.

ولم تظهر إعلانات مماثلة على منصات فيسبوك، إنستجرام، سناب شات، أو تيك توك، إلا أنه ظهر جليًا تعديل الخوارزميات لحجب أو منع أو تقليل ظهور المحتوى الداعم للقضية الفسلطينية، بل وإغلاق العديد من الحسابات خاصة عبر انستجرام بدعوى أنها تنتهك قواعد المنصة.

احد الإعلانات الإسرائيلية التي تتخلل إعلانات الموبايل

 

شرعية الإعلانات

من المهم هنا الإشارة إلى قانون الخدمات الرقمية الأوروبي DSA، الذي ينص على منع أي إعلانات بناءً على التوجه الجنسي أو الدين أو العرق أو المعتقدات السياسية للشخص، ويضع قيودًا على استهداف الإعلانات للأطفال. بالتالي تعد هذه الإعلانات انتهاكًا للقوانين الرقمية لما تتضمنه من مشاهد عنف، وإعلانات تستهدف الأطفال، وانحيازات سياسية.  

وبموجب قانون الخدمات الرقمية، يتعين على الشركات إزالة المحتوى غير القانوني بسرعة، بما في ذلك الدعاية الإرهابية، والحد من انتشار الأكاذيب، وإلا ستواجه غرامات شاملة تصل إلى 6% من إيراداتها السنوية العالمية.

وهو ما أكده موقع Politico، الذي أشار إلى أن شركة جوجل أزالت نحو 30 إعلانًا يحوي صورًا عنيفة، وذلك بعد طلب الموقع من الشركة التعليق على طبيعة نشر مثل هذه الإعلانات، إذ أكدت الأخيرة أنها لا تسمح بالإعلانات التي تحتوي على لغة عنيفة، أو صور مروعة. ومع ذلك فإن بعض الفيديوهات لاتزال متاحة على قناة يوتيوب التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية مع بعض التحذيرات.

أحد الإعلانات الإسرائيلية عبر يوتيوب

 

وقد قوبلت بعض الإعلانات عبر الإنترنت ببعض المعارضة من قبل المشاهدين الذين سعوا إلى إيجاد طرق لوقف استهدافهم من قبل وزارة الخارجية الإسرائيلية. لكن الخبراء في هذا المجال يقولون إن هذا هو الواقع الجديد لحملات العلاقات العامة المبنية على الحروب.

وبحسب موقع politico، قال متحدث باسم بعثة إسرائيل لدى الاتحاد الأوروبي، والذي لم يكشف عن هويته بسبب مخاوف أمنية -حسبما نقل الموقع- إنهم يكنون احترامًا كبيرًا لقتلاهم، لكن نشر هذه الصور والإعلانات كان ضرورة. مضيفًا: “الحرب ليست فقط على الأرض”.

إسرائيل تخسر الحرب الإلكترونية

هذه الجملة الأخيرة التي اقتبستها كما قال بالضبط، هي الأهم في هذه القضية، فبالفعل الحرب ليست على الأرض فقط وإنما الفضاء الإلكتروني كذلك أصبح ساحة لا تقل أهمية، وبالتالي هنالك فرصة ذهبية يجب التعامل معها بجدية لإعادة تصحيح التاريخ الذي تم تزييفه لعقود، خاصة وأن بالفعل الجهود الإلكترونية العربية للمؤثرين الشباب أحدثت تأثيرًا ملموسًا ظهر في المظاهرات الأوروبية لدعم الفلسطينيين والتي تأتي بما يتعارض تمامًا مع الخطاب الإعلامي للقنوات التلفزيونية والصحف العالمية الداعمة تمامًا للاحتلال. وهذا يعد مكسبًا حقيقا استطاع الفلسطينيون والعرب إحداثه بإيصال الحقيقة إلى قطاع عريض من الناس بعضهم يدركها للمرة الأولى إذ كانت لديه صورة مغايرة تم فرضها طوال الخمسة والسبعين عامًا الماضية. 

ويظهر هذا جليًا في منشور لجيف موريس جونيور، المدير التنفيذي السابق في تطبيق Tinder، عبر منصة X سلط فيه الضوء على نقطة بيانات قال إنها تظهر بوضوح أن “إسرائيل تخسر حرب TikTok” قائلا: “مقاطع الفيديو التي تحتوي على هاشتاج “#standwithpalestine” حصدت نحو 3 مليار مشاهدة، في حين حصلت مقاطع فيديو “#standwithisrael” على نحو 200 مليون فقط”. 

 

أيضًا في إحصائية لجامعة هارفرد كان السؤال: “هل تعتقد أن قتل حماس لـ 1200 مدني إسرائيلي هو فعل مُبرَر تبعًا لما تعرض له الفلسطينيون؟” وجاءت الإجابة بنعم هو فعل مبرر من 51 % من الشباب من سن 18 إلى 24، بينما جاءت بنعم لـ 49% في الفئة الأعلى وهو من 25 إلى 34، ويقل تدريجيًا ما يعد تغيرًا جذريًا في الآراء الغربية وخاصة بين الشباب عن ما يحدث في الأراضي المحتلة وأسبابه وتاريخه، وهو ما أثار  التساؤلات بين النشطاء في الولايات المتحدة حول تأثير “تيك توك” على وجه الخصوص على الشباب الأصغر سنًا الذين يدعمون فلسطين والمقاومة، وهو ما يعد نجاحًا كذلك لحملات الشباب العرب من مختلف الجنسيات وللمؤثرين الفلسطينين تحت خط النار الذين ينقلون واقعهم المؤلم.  

نتائج دراسة جامعة هارفرد
حساب لإحدى الأمريكيات تتساءل عن تأثير تيك توك على الشباب بخصوص القضية الفلسطينية

 

ما يظهر أنه على الرغم من التحديات الخوارزمية التي تواجه الفيديوهات وصناع المحتوى عبر المنصات المختلفة إلا أنها تحدث أثرًا يستحق من أجله الاستمرار في نشر الوعي عن القضية الفلسطينية ونشر الحقائق التي يزيفها الاحتلال.

وبالعودة إلى السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني مع الأحداث، فالإجابة نعم! الأمر الآن مختلف وهي بالفعل فرصة ذهبية لطرح القضية الفلسطينية كما كان ينبغي أن تُطرح منذ سنوات عديدة.

عن أميرة دكروري

‎ مدرس مساعد بدبلومة الإعلام الرقمي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. صحفية وصانعة أفلام وثائقية ومنسقة إعلامية للفعاليات الثقافية والفنية، وآخرها مهرجان دوائر الثقافي. وتعمل حاليًا معدة بقناة الحياة. كتبت في عدد من الصحف والمطبوعات والمواقع الإلكترونية المصرية، منها بوابة الأهرام، ومجلات البيت وفنون وعالم الكتاب، وجريدة القاهرة. حاصلة على الماجستير في التلفزيون والإعلام الرقمي من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *