في ليلة من ليالي شتاء ديسمبر 1966، كانت مصر على موعد مع أول عرض باليه مصري في تاريخها. أزيح الستار لتقابل فراشات الأوبرا المصرية تصفيقا حادا من جمهور مصري، وعدد من القيادات على رأسهم رئيس الجمهورية العربية المتحدة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي أهدى هؤلاء الراقصات وسام الاستحقاق الذي يمنح لأول مرة لـ «راقصات» في مصر.
كانت نقطة انطلاقة تاريخية للباليه المصري، في عرض بطلته فراشة الباليه التي رحلت عن عالمنا في 11 يونيه الماضي الباليرينا ماجدة صالح.
البداية
بدأت حكاية ماجدة أحمد عبد الغفار صالح مبكرًا، إذ ولدت لأسرة مكونة من 4 أفراد، رب الأسرة هو الدكتور أحمد صالح، أحد رواد التعليم الزراعي في مصر، والذي تدرج في المناصب الأكاديمية حتى شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة في الفترة من عام 1965 حتى 1974. والأم اسكتلندية قررت تربية أبنائها على الثقافة والفنون فأرسلت ابنتها الثانية «ماجدة»، التي ولدت في عام 1944 إلى استوديوهات الباليه التي كان يشرف عليها راقصون ومدربون بريطانيون، وهو ما أحبته وبرعت فيه، ما شجعهم على إلحاقها بالكونسرفتوار في الإسكندرية، والذي كان يضم قسمًا للباليه يشرف عليه معلمون من الأكاديمية الملكية البريطانية.
ونظرًا لتفوقها في التدريبات تقرر ابتعاثها في منحة لتعلم الباليه في مدرسة الفنون بالمملكة المتحدة، لكن بعد شهرين فقط من سفرها حدث العدوان الثلاثي مما أجبرها على العودة.
خماسي البولشوي
ورغم هذا الحظ العثر فإن الأفضل كان قادمًا، فبعد ذلك بفترة وجيزة جاء مدرس من «البولشوي» للقاهرة ليفتتح مدرسة لرقص الباليه، وتقدمت ماجدة لها، وتم قبولها بجانب 30 طالبًا آخرين، وأصبحت هذه المدرسة فيما بعد المعهد العالي للباليه بعد ضمها لوزارة الثقافة المصرية. وفي عام 1963 كانت ماجدة واحدة من بين 5 راقصات باليه في نفس صفها محظوظات بحصولهن على منحة لاستكمال دراستهن في أكاديمية بولشوي للباليه في موسكو، وأطلق عليهن لقب «بولشوي فايف» أو خماسي البولشوي.
بالفعل ذهبت ماجدة إلى هناك لتتشرب روح هذا الفن، وتبرع فيه، فعلى حد تعبيرها «الروس علمونا بالحب ليس لنا كراقصات وإنما للباليه والرقص، وهذا أهم ما اكتسبته منهم». وتخرجت ماجدة من أكاديمية البولشوي في 1965، لتعود إلى مصر راقصة محترفة لفن يخطو خطواته الأولى في مصر وينتعش في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
في عام 1963 كانت ماجدة واحدة من بين 5 راقصات باليه في نفس صفها محظوظات بحصولهن على منحة لاستكمال دراستهن في أكاديمية بولشوي للباليه في موسكو
دعم عكاشة
كانت لماجدة طموحات كبيرة، وسعت كثيرًا لاستكمال رحلتها مع الباليه في مصر، وبدعم من وزير الثقافة المصرية آنذاك الدكتور ثروت عكاشة، تقرر تقديم أول عرض باليه مصري في عام 1966، والذي كان يحمل اسم «نافورة بختشي سراي» في دار الأوبرا المصرية الخديوية بالقاهرة. وتحكي ماجدة في أحد لقاءاتها الصحفية أن ثروت عكاشة ذهب إليهم في الكواليس لتشجيعهم وإخبارهم أنه طلب من الرئيس جمال عبد الناصر حضور العرض، وبالفعل حضر الرئيس في اليوم الثاني بصحبة زوجته وجلسا في البنوار المجاور للمسرح.
توالت من بعدها عروض الباليه المتنوعة ولمع اسم ماجدة صالح عالميًا كنجمة وفراشة مصرية. إلا أنها ترجع هذا الإنجاز إلى د. ثروت عكاشة، ففي لقاء مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قالت: «لم يكن أي من هذا ممكناً، لولا التقاء الوقت والظروف ورجل واحد هو ثروت عكاشة أول وزير للثقافة، فقد كان صاحب الرؤية والمثابرة، فبالنسبة لجيلي هناك الله وثروت عكاشة».
كانت لماجدة طموحات كبيرة، وسعت كثيرًا لاستكمال رحلتها مع الباليه في مصر، وبدعم من وزير الثقافة المصرية آنذاك الدكتور ثروت عكاشة، تقرر تقديم أول عرض باليه مصري في عام 1966
العالمية
استمرت مسيرة ماجدة صالح في المضي قدمًا ليس فقط في مصر وإنما عالميًا، فكتبت عنها الكثير من الصحف العالمية مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، سواء للإعلان عن حفلاتها أو لعقد اللقاءات معها.
في عام 1971، اشتبكت ماجدة صالح مع السينما لمرة وحيدة في تاريخها عن طريق تجسيدها شخصية «ليلى» في فيلم «ابنتي العزيزة»، وكانت ليلى في الفيلم طالبة وراقصة باليه، ويبدو أن التجربة لم ترق لماجدة كثيرًا، لكنها تضمنت الرقصة الوحيدة المسجلة لها، وهي الرقصة الإسبانية «كسارة البندق» التي كانت مشهورة في هذا الوقت.
كانت هذه المرحلة هي ذروة تألق فراشة الأوبرا المصرية ماجدة صالح، إلا إنها كانت قد بدأت تعاني من آلام ومشاكل صحية في عظامها، لكن هذا لم يمنعها من تقديم عرض مميز ورائع، جسدت فيه دور «جيزيل» على مسرح البولشوي عام 1972، والذي وصفته أنه أفضل أداء لها كباليرينا، رغم أنها وصفت آلام جسدها وقتها على أنها «لا تحتمل»، واعتبرت هي أن هذا هو عرضها الأخير. تقول: «كان العرض تتويجًا لحياتي الفنية على خشبة المسرح بزيارة للاتحاد السوفيتي بدعوة من وزارة الثقافة السوفيتية لي ولزميلي عبد المنعم كامل، فقد دعينا للأداء مع الفرق المقيمة في مسارحهم القومية. ورقصنا مع فرقة «البولشوي» في مسرح «البولشوي» في موسكو، ورقصنا على مسرح «الكيروف» في لينينجراد مع الفرقة التي تسمى حاليا «بالمارينك»، وهذا كان تتويجا حقيقيا لحياة فنية».
“استمرت مسيرة ماجدة صالح في المضي قدمًا ليس فقط في مصر وإنما عالميًا، فكتبت عنها الكثير من الصحف العالمية مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، سواء للإعلان عن حفلاتها أو لعقد اللقاءات معها”
ويبدو أن ماجدة صالح لم تستطع تخطي حريق الأوبرا الخديوية الذي حدث قبل هذه الجولة مباشرة، والذي وصفته في أحدى لقاءاتها بأنه: “لم يكن نهاية الرقص في القاهرة فحسب، بل نهاية الحياة الثقافية”.
الاعتزال
ومن بعدها قررت صالح اعتزال الرقص والانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها لم تعتزل أبدًا حبها للباليه. ففي الولايات المتحدة حصلت على درجة الماجستير في الرقص الحديث من جامعة كاليفورنيا، ثم على الدكتوراة من جامعة نيويورك، والتي تضمنت تصويرها لفيلم وثائقي بعنوان “رقصات مصر” عن الرقصات المحلية والشعبية غير المعروفة في القرى المصرية. وحذرت لاحقًا من أنه ستكون هناك “خسارة ثقافية” إذا أدى تغيير أنماط الحياة في المناطق الريفية إلى تخلي القرويين عن هذه التقاليد لأي من أسباب الحداثة.
«كان العرض تتويجًا لحياتي الفنية على خشبة المسرح بزيارة للاتحاد السوفيتي بدعوة من وزارة الثقافة السوفيتية لي ولزميلي عبد المنعم كامل، فقد دعينا للأداء مع الفرق المقيمة في مسارحهم القومية. ورقصنا مع فرقة «البولشوي» في مسرح «البولشوي» في موسكو، ورقصنا على مسرح «الكيروف» في لينينجراد مع الفرقة التي تسمى حاليا «بالمارينك»، وهذا كان تتويجا حقيقيا لحياة فنية»
وعندما عادت ماجدة إلى مصر في عام 1983، عملت من 1984 إلى 1986 عميدة للمعهد العالي للباليه، وفي 1987 بدأت تسعى لتحقيق حلم بناء أوبرا جديدة، فبدأت المفاوضات مع السفير الياباني، ونجحت في توفير الدعم المادي والفني للأوبرا، بمنحة قدرها 50 مليون دولار من الحكومة اليابانية، لتكون أول رئيسة لدار الأوبرا المصرية الجديدة، لكن بسبب خلافات مع وزير الثقافة وقتها فاروق حسني استبعدها من رئاسة الأوبرا قبل افتتاحها وعينت رتيبة الحفني بدلاً منها.
انتقلت بعدها إلى نيويورك عام 1992 ونشطت في المساعدة على جلب فناني الأداء المصريين إلى الولايات المتحدة. كما ألقت محاضرات حول الباليه والرقص المصري، غالبًا في مكتبة نيويورك العامة للفنون المسرحية في مركز لينكولن وفي مؤسسة سميثسونيان.
وقد خلدت ماجدة صالح ذكرياتها عن فن الباليه في مصر عن طريق مشاركتها في عام 2016 في فيلم بعنوان «هامش في تاريخ الباليه»، لتظل دوما رمزًا للباليه المصري.