كان هناك زوجان، يسكنان الجنة، يتنعمان في أشجارها وأنهارها. كانا يعيشان في سعادة غامرة، ويستأنسان ببعضهما البعض، ولم تكن هناك أية شروط لهذا النعيم إلا شرط وحيد، وهو عدم الأكل من ثمار شجرة وحيدة في جنتهما، شجرة المعرفة المحرمة. لكنهما استسلما لغواية المعرفة، فقطفا من ثمار الشجرة، وأكلا، فطُردا من الجنة.
نسخة مألوفة
تلك الحكاية، هي النسخة المألوفة لقصة “آدم وحواء” في الديانات الإبراهيمية، فوفقا للكتاب المقدس أوصى الرب آدم قائلا: “من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفَة الخير والشر فلا تأكل منها، لأَنك يوم تأكل منها موتًا تموت”. سفر التكوين (16:2) (17:2).
وفي القرآن يقول الله تعالى: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”. سورة البقرة (35).
هذا عن النصوص فماذا عن التأويل؟
لو سألت أي شخص في الشرق تقريبا عن الشجرة المحرمة التي تسببت في خروج آدم وحواء من الجنة، سيقول على الفور إنها كانت شجرة تفاح. لكن الحقيقة أنه لم يتم أبدا تحديد نوع الفاكهة أو الشجرة بشكل واضح أو قاطع في الآيات المقدسة، مما يجعلنا نتساءل ما مصدر الاعتقاد بأن الثمرة المحرمة هي التفاحة؟ وخصوصا أن ذلك الاعتقاد لم يقف عند حد معتنقي الأديان الإبراهيمية فقط، وإنما تجاوزه بل وسبقه أحيانا الاعتقاد نفسه في ثقافات أخرى قديما وحديثا، وكلها اعتبرت التفاحة رمزا للإغواء والخطيئة!
بحسب “الإلياذة” التي كتبها الشاعر الإغريقي هوميروس، فإن التفاحة كانت سببا في قيام حرب طروادة
الثمرة المظلومة
فرضت “التفاحة” وجودها في القصص الشعبية والدينية والأساطير حول العالم، ويختلف معناها من ثقافة لأخرى، حيث اعتبرت رمزا في بعض البلاد للعلم والمعرفة، وفي بلاد أخرى كانت رمزا للصداقة والعائلة والحظ الجيد، وثقافات هنا وهناك تعتبرها رمزا للخصوبة والرغبة وجلب الحب، أو الخير، أو الصحة، وبشكل أساسي -بالطبع- فإنها رمز للخطيئة الأولى، فقضمة واحدة منها حرمت البشرية كلها من النعيم وألقتنا في عذاب مستمر. بل إن هناك أسطورة شعبية تفيد بأن قضمة التفاح الآثمة التي قضمها آدم ظلت عالقة في حلق الرجال من بعده وتظهر بما يُعرف بـ “تفاحة آدم”، كتذكير أبدي بخطيئة البشر!
تفاحة إيزيس أشعلت حرب طروادة
هناك بعض الآراء التي تُرجع سبب ربط التفاحة بقصة الشجرة المحرمة إلى رمزيتها في العصور اليونانية القديمة، فبحسب “الإلياذة” التي كتبها الشاعر الإغريقي هوميروس، فإن التفاحة كانت سببا في قيام حرب طروادة، وتحكي القصة أن الملك بيليوس عندما تزوج، لم يدع الإلهة إيريس (الربة المجسدة لقوس قزح) لزفافه، فغضبت وشعرت بالإهانة وقررت أن تفسد فرحته، فأرسلت تفاحة ذهبية إلى الحضور وكتبت عليها “إلى أجملهن”، فنشب خلاف بين ثلاث ربات، هن: أثينا (ربة الحكمة والحرب وحامية المدينة) وأفروديت (ربة الحب والجمال والفتنة) وهيرا (ربة الزواج)، وتشاجرن حول من هي أجملهن والأحق بالتفاحة، فلجأن إلى تحكيم باريس أمير طروادة، وأغرته كل منهن بمكافأة إذا اختارها، فعرضت عليه أثينا الحكمة، ووعدته هيرا بالسلطة، وفتنته أفروديت بأجمل النساء على الأرض، فاختار الأخيرة، والتي نفذت وعدها وأرسلته إلى مدينة أسبرطة حيث تعيش أجمل امرأة وهي هيلين، زوجة الملك مينلاوس، فأغواها باريس وأقنعها بالهرب معه إلى طروادة وهجر زوجها، مما أشعل غضب المدينة ورفع أهلها راية القتال عليهما فاشتعلت الحرب بين المدينتين.
ومن تلك الأسطورة حملت التفاحة تهمة الغواية والرغبة في المزيد، وربما هذا ما جعل العقل الجمعي يربط بين هذه الفكرة في الأسطورة اليونانية وقصة آدم وحواء، ثم تم توارث الحكاية عبر الثقافات المختلفة.
وربما جاء الخلط بين الثمرة الممنوعة والتفاح بسبب تشابه الكلمتين في الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس. وسواء كان السبب هذا أو ذاك، فلن نستطيع التأكد مما إن كانت الشجرة المحرمة هي التفاح أم لا، لكننا وبلا شك، نعرف أن “التفاحة” قد ظُلمت بشكل ما.
“هناك أسطورة شعبية تفيد بأن قضمة التفاح الآثمة التي قضمها آدم ظلت عالقة في حلق الرجال من بعده، “تفاحة آدم”، كتذكير أبدي بخطيئة البشر!”
تفاحات شهرزاد الثلاث
التفاحة كانت بطلة حكاية أسطورية أخرى ولكن هذه المرة في الثقافة العربية وليس اليونانية، وهي حكاية التفاحات الثلاث إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وتبدأ الحكاية نحو الليلة التاسعة عشرة وتستمر حتى الليلة الخامسة والعشرين حسب النسخة العربية من الكتاب، حيث بدأت مع نهاية «حكاية الحمال مع البنات». تضم الحكاية بين طياتها «حكاية الوزير نور الدين مع شمس الدين أخيه»، وتنتهي مع بداية «حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم».
في هذه الحكاية، يشتري هارون الرشيد صندوقا من أحد الصيادين، وعندما يفتحه، يفاجأ باحتوائه على جثة امرأة شابة. عندها يكلّف وزيره جعفر بمهمة العثور على الجاني، ويمهله ثلاثة أيام لذلك وإلا فإن مصيره سيكون الإعدام. بعد ذلك وفي نهاية الأيام الثلاثة وعندما يكون جعفر على وشك الحكم عليه بالموت لفشله في تنفيذ المهمّة الموكلة إليه، يأتي شخصان ويدعيان بأنهما هما من قتلاها. في خلال روايتهما للقصة نتبين أن اشتهاءها للتفاح هو السبب في قتلها بشكل ما.
عصر النهضة.. بعض الإنصاف
خلال عصر النهضة، انتشر رسم قصة آدم وحواء في لوحات فنية، وعلى الرغم من أن الكثير من لوحات الكنائس ظلت مقيدة بـ”التفاح” باعتبارها شجرة المعرفة المحرمة، فهناك فنانون منحوا أنفسهم حرية التعبير خارج إطار الاعتقاد الدارج، ومنحوا الثمرة “المظلومة” قليلا من الإنصاف. ففي عام 1512 مثلا، صنع الفنان الإيطالي مايكل أنجلو لوحة جدارية لسقف كنيسة سيستينا في مدينة الفاتيكان، كتب عنها جورجيو فاساري مؤرخ الفن وكاتب سيرة عصر النهضة، قائلا: “وفقًا لمايكل أنجلو، لم تكن الفاكهة المحرمة تفاحة، بل هي تين”!
“على الرغم من أن الكثير من لوحات الكنائس ظلت مقيدة بـ”التفاح” باعتبارها شجرة المعرفة المحرمة، فهناك فنانون منحوا أنفسهم حرية التعبير خارج إطار الاعتقاد الدارج، ومنحوا الثمرة “المظلومة” قليلا من الإنصاف”
.. والتين
شجرة “التين” تم اتهامها أيضا باعتبارها الشجرة المحرمة، وتم ذلك تحديدا في العصر القبطي أو ربما قبل ذلك، ففي المتحف القبطي في القاهرة تُحفظ إحدى اللوحات الجدارية الشهيرة التي يعود تاريخها إلى القرن الـ 11، حيث آدم وحواء قبل وبعد أكلهما من الشجرة، وتمثلت في شكل شجرة تين، ويخفي كل منهما عورته بأوراق التين، والنص المكتوب باللوحة يصف طردهما من الجنة.
تفاح.. توت.. رمان!
بعد عصر النهضة، استمر الاختلاف، ففي عام 1667، نشر الشاعر الإنجليزي جون ميلتون ملحمته الشعرية “الفردوس المفقود”، والتي تدور حول آدم وحواء وخداع الشيطان لهما وطردهما من الجنة إلى الأرض، وأعاد فيها التأكيد على أن الثمرة المحرمة كانت تفاحة!
ولكن في أحد أهم المعالم الأثرية التي تعود إلى القرن الـ 18، وهو قصر شاكي خان بأذربيجان، مثّل الفنان في أيقونات القصر شجرة الرمان على أنها شجرة الخلد!
أما في الثقافات العربية فهناك تعبير دارج عن كشف المستور وهو “سقطت ورقة التوت”، وذلك ارتباطا بقصة آدم وحواء باعتبار أنهما عندما أكلا من الشجرة انكشفت عورتيهما فأخذا يغطياها بأوراق الشجر الساقطة، وبالتالي تكون الشجرة المحرمة هي شجة توت!
أم هي نخلة؟
رغم كل ما سبق تذهب بعض الآراء إلى أن الشجرة المحرمة هي في الحقيقة نخلة وليست شجرة، وذلك اعتمادا على ختم يسمى مجازا باسم “ختم الإغراء” يعود إلى حضارة وادي الرافدين، يُحفظ حاليا بالمتحف البريطاني، نُحت عليه رجل وامرأة بينهما شجرة مثمرة أو ربما نخلة، يأكلان منها، وخلف المرأة ثعبان.
الختم يؤرخ للفترة بين عام 2200 – 2100 قبل الميلاد، الأمر الذي دفع العلماء إلى الاعتقاد بأن عناصر قصة آدم وحواء توارثت وانتقلت إلى الكتاب المقدس، وأن تلك الأسطورة التي مثلها الأكاديون على الختم، هي الأصل الذي استوحت منه الأديان السماوية حكايتها، واختلفت عناصرها باختلاف الثقافات المتتالية، فالنخيل في حضارة وادي الرافدين تشغل أهمية كبيرة للغاية حيث كان الاعتقاد السائد أنها ترمز إلى شجرة الحياة والمعرفة، ومن يأكل ثمارها يصبح حكيما.
لا إجماع
وظل الأمر هكذا حتى يومنا هذا، لا إجماع على نوع الفاكهة بالضبط التي مُنع آباء البشر الأوائل من تناولها، فهناك آراء تفسرها بأنها ثمار العنب، أو التين، أو الرمان أو المشمش، أو التوت وربما البرتقال أو البلح، وربما أي فاكهة ذات بذور، ولكن الرأي بأنها “تفاحة” ظل هو الرأي السائد المتوارث عبر السنين.