أحدث الحكايا
من فيلم إنشالله ولد

أحمد شوقي يحكي: الأفلام العربية في كان.. وجدل “المرأة السوداء المحجبة”

اندلع نقاش موسع، غاضب أحيانًا، بين المخرجين والنقاد العرب المشاركين في الدورة السادسة والسبعين لمهرجان كان السينمائي الدولي، والتي أقيمت في الفترة بين 16 و27 مايو الماضي، وشهدت حضورًا قياسيًا للأفلام العربية بمشاركة 9 أفلام طويلة و4 أفلام قصيرة في أقسام المهرجان المختلفة. النقاش سببه تغريدة كتبها مخرج مصري شهير، له حضور دولي معتبر، تناقش صورة المرأة العربية في أفلام المهرجان ويتساءل عن اليوم الذي ستتوقف فيه المهرجانات الدولية عن اختيار أفلام عربية يتضمن الأفيش الخاص بها صورة “امرأة سوداء محجبة”.

الكلمات لاذعة بالطبع، تحمل الطابع الذي صرنا نفهمه لكتابات مواقع التواصل الاجتماعي، التي قد تحمل النبرة فيها بعض المبالغة النابعة من دفقة الشعور التي كُتبت الكلمات خلالها. لكننا لو نحينا النبرة جانبًا ونظرنا للرأي نفسه، سنجد أن له وجاهته، التي لا يمكن تلخيصها -كما رأي البعض- في مخرج يشعر بالغيرة لغيابه عن أكبر مهرجان سينمائي، وإنما تتعلق بنسبة معتبرة من إنتاجات السينما العربية، لا سيما خلال العقدين الأخيرين، عصر التنوع العرقي وعدالة التمثيل والحضور المكثف لسينما العالم الثالث في كان وفينيسيا ونظرائهما.

نظريات المؤامرة

يجب أن نشدد هنا أن المخرج صاحب التغريدة ليس من المهووسين بنظريات المؤامرة، أو الأحاديث الممجوجة عن المهرجانات وصناديق الدعم التي تمول الأفلام التي تُظهر المشكلات وتشوه سمعة البلاد، وإنما هو فنان حقيقي، موهوب ومهموم، وراغب في الانخراط في الرأي العام السينمائي والاشتباك معه، بما يجعله أنبل من كل من يختبئون وراء شعار هلامي كـ “أخلاقيات المهنة” التي تُكبّل الفنان وتمنعه من إبداء رأيه، وكأن حرية ممارسة الفن لابد وأن تقترن بالتنازل عن حرية إبداء الرأي في الفن، المحلي.

لم يُخطئ المخرج إذن بممارسة حريته في التعبير عن رأيه، وربما لم يُخطئ بعض المخرجين المشاركين في كان عندما أغضبتهم التغريدة ووجدوا فيها إفساد لفرحة اختيار أفلامهم في المهرجان العريق، لكن الأكيد أننا لو حاولنا تنحية المشاعر، سنجد أن بإمكان ذلك التعليق البسيط وما أثير حوله من نقاش أن يخبرنا شيئًا عن أنفسنا، عن المهرجانات، وعن التحدي الأكبر لأغلب صناع الأفلام العرب.

بوستر مهرجان كان

لنعرف أكثر

أول ما تخبرنا به التغريدة حقيقةٌ تحمل داخلها ردًا على الاستنكار: أن أغلب النساء في العالم العربي حاليًا محجبات، وسواء في دول عُرف عنها الميل للمحافظة، أو دول تمتعت تاريخيًا بهامش أكبر من حرية المرأة، فقد غدت تلك هي صورة أغلب النساء، وبالتالي إذا حاول أي فيلم سرد أي حكاية لها نصيب من الواقعية، لا تشبه المسلسلات المصرية التي اعتاد معظمها أن يدور في قاهرة افتراضية خالية من المحجبات غير موجودة إلا في مواقع التصوير، فإن الفيلم سيضم بطبيعة الحال شخصيات تشبه ملايين البشر في الشوارع، محجبات سمراوات.

يلفت الأمر نظرنا أيضًا لحالةٍ أخرى تتعلق بالمهرجانات السينمائية العالمية، وما يبحث عنه مبرمجوها عندما يشاهدون الأفلام الآتية من دولنا للاختيار من بينها. بداهةً، لا توجد قصدية مسبقة ولا مؤامرة كونية، ولكن ثمّة رغبة في اكتشاف عالم مختلف، في التفتيش عن أعمال تضرب أكثر من وتر معًا، أفلام وأشياء أخرى؛ وفي أغلب الأحوال لا يكفي للتأثير في مهرجانات الغرب أن يصنع فنان العالم الثالث فيلمًا جيدًا، بل يجب أن تقترن تلك الجودة ببعض التعليم، أو قليل من الإيضاحات الثقافية، وحبذا لو أُضيفت ملعقة من الدفاع عن الحريات والقضايا الكبرى كي تكتمل الوجبة المُشبعة التي يصعُب رفضها.

نسيت أن أذكر عاملًا مشتركًا آخر بين الأفلام السابقة: الشخصية الرئيسية في جميع الأفلام المذكورة بلا استثناء امرأة سمراء، محجبة أو منقبة!

وإذا نظرنا إلى الأفلام العربية التي شاركت في مهرجان كان الأخير سنجد قاسمين مشتركين يجمعان أغلبها: الجودة الفنية واستيفاء الشرط المذكور في الفترة السابقة. تصيغ التونسية كوثر بن هنية فيلمًا هجينًا بين الروائي والتسجيلي في “بنات ألفة” عن قصة حقيقية لامرأة تعرضت للقهر طيلة حياتها ثم صُدمت بانضمام اثنتين من بناتها إلى تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا. ينسج السوداني محمد كردفاني صراعًا شكسبيريًا خلفيته الاقتتال الأهلي والصراع العنصري بين شمال السودان وجنوبه في فترة ما قبل الانفصال. تروي المغربية أسماء المدير حكاية شخصية عن ماضي عائلتها قبل أن تكشف ارتباط الماضي بما عُرف باسم “ثورة الخبز”، الحراك الشعبي الذي قمعته قوات الحسن الثاني بعنف. أما الأردني أمجد الرشيد، فيكشف عنوان فيلمه “انشالله ولد” عن معاناة البطلة التي يموت زوجها فجأة، فتزعم حملها على أمل أن تضع ولدًا يضمن لها حقها الشرعي في ميراث الأب.

نسيت أن أذكر عاملًا مشتركًا آخر بين الأفلام السابقة: الشخصية الرئيسية في جميع الأفلام المذكورة بلا استثناء امرأة سمراء، محجبة أو منقبة!

من فيلم بنات ألفة

وضع ملتبس

هل هي مصادفة؟ لا أعتقد، فجميع الأفلام نتاج منظومة إنتاجية واحدة: مخرج ومنتج مستقلان يتحركان بميزانية محدودة، يخاطبان جهات الدعم الدولية والإقليمية بملف يحاول إقناع الداعمين بأهمية المشروع الفنية والثقافية (والاجتماعية والسياسية ربما)، ليتشكل تدريجيًا فريق كل فيلم من منتجين مشاركين وجهات داعمة عديدة، فيكون الناتج النهائي عمل واحد له مخرج ومنتج رئيسيان، وعدد من المنتجين المشاركين ودول الإنتاج/ الدعم التي تصل في بعض الحالات إلى خمس أو ست دول.

أيعني ذلك أن كوثر بن هنية باعت روحها لشيطان الجهات الداعمة؟ أو أن أمجد الرشيد قرر ممارسة بونوغرافيا البؤس misery porn ليجد من يموّل فيلمه ويضمن مكانه في مهرجان كان؟ الإجابة بالقطع لا، فالغالبية العظمي من صناع الأفلام العرب هم فنانون مخلصون، يعبرون عن همومهم الخاصة والعامة في أفلامهم، ويعانون من أجل إتمام الفيلم الواحد في ظروف عسيرة ودعم وطني غائب ومشكلات تطرأ على مدار الساعة، فيستغرق كل فيلم سنوات من أعمارهم بما لا يعانيه مخرجو العالم الأول. ولكل قاعدة استثناءات بالطبع سواء في الشرق أو الغرب.

المهرجانات وجهات الدعم تفعل خيرًا بمساعدة أفلام لم تكن لتخرج للنور لولا هذا الدعم، لكنها في المقابل تدفع الفنانين بطريق غير مباشر أن يسلكوا الطريق الأسهل ويمارسوا فلترة ذاتية

لكن سيكون من السذاجة بمكان أيضًا أن نفترض الطوباوية من كل الأطراف، أو أن نؤكد أن كل الجهات الداعمة ساندت الفيلم لقناعتها الفنية الخالصة بموهبة صانعه، وأنها ستكرر الدعم لو اختار الفنان أن يكون فيلمه المقبل كوميديا رومانسية، أو فيلم حركة، أو حتى دراما نفسية لا علاقة بها بقضية اجتماعية أو سياسية ولا تتلامس مع حقوق جماعة مقهورة أو فئة مهمشة.

ما أحاول قوله هنا إن الوضع أعقد بكثير من أي تفسير سطحي يحاول اختزال الأمور وتصنيف البشر بين مخطئ ومصيب. المهرجانات وجهات الدعم تفعل خيرًا بمساعدة أفلام لم تكن لتخرج للنور لولا هذا الدعم، لكنها في المقابل تدفع الفنانين بطريق غير مباشر أن يسلكوا الطريق الأسهل ويمارسوا فلترة ذاتية لاختيار المشروع الذي يسهل إقناع الممولين به. وصناع الأفلام يصنعون أفلام تشغلهم ويؤمنون بها حقًا، وليس ذنبهم أنهم مضطرون لطرق كل الأبواب كي يتكمنوا من استكمال أفلامهم، لكن لا ضمانة إطلاقًا لأنهم في ظرف مثالي متخيل سيقدمون على صناعة الفيلم نفسه شكلًا ومضمونًا.

من فيلم وداعا جوليا

شاهد تريلر فيلم “وداعا جوليا”

المعيار الباقي

في النهاية، تبقى المعايير الوحيدة الممكنة حتى إشعار آخر هي الصدق والموهبة، قدر الصدق الذي يمكننا أن نلمسه في الفيلم، وموهبة المخرج في تقديم موضوعه بصورة خلاقة. وتظل وحدة القياس هي الفيلم الواحد، فلا يمكن تعميمُ حكمٍ على شكل كامل من السينما أو حتى على مسيرة مخرج برمتها، وإنما نشاهد كل فيلم على حدة ونحلله باذلين، جهدًا نحاول أن يوازي الجهد المبذول في صناعته.

أما بالنسبة لسؤال المخرج الذي بدأنا به المقال، فنؤكد أن طرحه ملائم وله وجاهته، لكنه يُبشر بلحظة لن تأت أبدًا، تارة لأن من البديهي كما أوضحنا أن تتضمن أي قصة صادقة تعبر عن الواقع العربي امرأة سمراء محجبة (أو ما يوازيها ثقافيًا)، وتارة لأن ذلك أقصى ما تسمح به الظروف الحالية لصناعة السينما في منطقتنا السعيدة.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.