بدأت علاقتي بألف ليلة وليلة، وعوالمها السحرية الفانتازية المدهشة، منذ أن استمعت إلى الصوت المتميز، الذي مازال عالقًا محفورًا في وجداننا، للفنانة القديرة زوزو نبيل، شهرزاد ألف ليلة وليلة، في صيغتها الدرامية، التي أبدعها الكاتب الكبير طاهر أبو فاشا، للإذاعة المصرية.
من تلك الفترة، ذهبت إلى نص الليالي، كي أتعرف على شهرزاد وشهريار، كما صاغها الراوي الشعبي الشفاهي، بسرده العنقودي، وحكايته الإطار، التي أظهر لنا من خلالها، امرأة جديدة قوية، متسلحة بالمعرفة، والقدرة الفذة على الحكي، الذي كان سببًا مركزيًّا، في ترويد ملك موتور، هذا الشهريار الذي أعادت له شهرزاد ثقته في نفسه، وفي الجنس الأنثوي، بعد صدمته العنيفة من خيانة زوجته له، رغم ما عرف عنه من العدل، في حكمه لمملكته.
وقد استمر تعلقي بهذا النص الفارق، في الإبداع العربي والعالمي، حتى تم ابتعاثي إلى جامعة شيكاجو، في الولايات المتحدة الأمريكية، لحصولي على البوست دكتوراه، وقد أنجزت هناك بحثًا عن “أثر ألف ليلة وليلة في السرد المصري المعاصر”، ثم ترجمت مقالًا مهمًا عن “رؤية الشرق وترجمة أدبه في ظل ألف ليلة وليلة”، للألماني “هارتموت فاندريش”؛ وهو ما كان سببًا في تدريسي لمجموعة من المحاضرات، عن الليالي العربية، والإبداع العربي شعرًا وسردًا، في جامعتي شيكاجو، وجورج تاون.
الحس الشعبي
ظلت نصوص ألف ليلة وليلة، في طور الشفاهية، عصورًا طويلة، قبل أن تنتقل إلى الكتابية والتواتر النصي؛ حيث بلورها الحس الشعبي، عبر مجموعة من الرواة المجهولين، الذين حوَّروا وغيَّروا وحذفوا وأضافوا، إلى هذا الخطاب الشفاهي؛ كي يسلوا العامة شفاهة، وفقًا لطبيعة العصر، وظروف المجتمع الحضارية، حتى انتقل إلى طور الكتابية، في طبعات اختلفت محتوياتها، وتنوعت بتنوع مصادرها، إلى أن تبلورت في أهم طبعة لهذا الكتاب؛ طبعة بولاق في مصر عام 1835م .
وتعود جذور حكايات “ألف ليلة وليلة” – على الأرجح وكما تعاقبت الروايات – إلى أصول فارسية وهندية، ثم لحق بها بعد ذلك، حكايات عربية بغدادية ومصرية، ويتفق “ابن النديم” (438/ 1047م) في كتابه “الفهرست”، مع المؤرخ السابق له “أبو الحسن المسعودي” (ت 346/957م) في كتابه “مروج الذهب”، على أن أصول الحكايات الشهرزادية، تعود إلى كتاب “هزار أفسانة” الفارسي؛ ويعني “ألف خرافة”، وقد تُرجم إلى العربية بعنوان “ألف ليلة”، غير أن بعض الدارسين، اختلفوا في الأصل الفارسي لبعض هذه القصص، وأرجعوه إلى أصل هندي؛ كقصة شهرزاد الإطارية، التي بنيت عليها ألف ليلة وليلة، ثم أضيف إلى هذه الأصول الفارسية الهندية حكايات عربية، ما بين بغدادية ومصرية وغيرهما.
“أنطوان جالان” أهدى ترجمته للمركيزة “أوه” إحدى رفيقات دوقة بورجونيا، وهو ما أسهم في انتشار ألف ليلة وليلة، في ثوبها الرومانسي، ذي الشكل الحكائي الشرقي”
ويحسب للمستشرق الفرنسي “أنطوان جالان” Antoine Galland (1646- 1715م)، الانطلاقة الأولى لرحلة “ألف ليلة وليلة”، خارج الشرق الأوسط؛ حيث ترجم ثلث الحكايات المخطوطة التي جلبها من الشرق، إلى اللغة الفرنسية، بين عامي (1704-1713م)، وقد حققت هذه الترجمة شهرة واسعة، بعد أن صاغها “جالان” وفق المعيار الثقافي الأوروبي، في القرن الثامن عشر، في ظل مُنَاخ ثقافي غربي، يبحث عن المغايرة الثقافية، ويجابه الكلاسيكية، مفسحًا المجال للرومانتيكية، التي وجدها في النص الشهرزادي، في وقت كانت المرأة تحتل فيه مكانة كبيرة، في الحياة الثقافية الأوروبية بشكل عام، حتى أن “أنطوان جالان” أهدى ترجمته للمركيزة “أوه” إحدى رفيقات دوقة بورجونيا، وهو ما أسهم في انتشار ألف ليلة وليلة، في ثوبها الرومانسي، ذي الشكل الحكائي الشرقي، المليء بالغريب والمجهول، الذي دفع الغرب، إلى معرفة تلك البلاد النائية، بفنها وبثرواتها الطبيعية.
لخص “أندريه جيد”، الموقف الأوروبي تجاه الليالي العربية، في قوله:”أمهات الكتب العالمية ثلاثة؛ الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)؛ وأشعار هوميروس (الإلياذة والأوديسة)، وكتاب ألف ليلة وليلة”
ويحسب للغرب – أيضًا- أنه التفت إلى أهمية “ألف ليلة وليلة”؛ على الصعيد العلمي والإبداعي، قبل موطنها الأصلي، لا سيما بعد أن تُرجِمت إلى مختلف لغات العالم، وقد لخص “أندريه جيد”، الموقف الأوروبي تجاه الليالي العربية، في قوله:”أمهات الكتب العالمية ثلاثة؛ الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)؛ وأشعار هوميروس (الإلياذة والأوديسة)، وكتاب ألف ليلة وليلة”. ومن ثم انتقل الغرب بالنص الشهرزادي من اللانصية إلى النص؛ بجمعه وترجمته وبحثه، في حين ظل النص مهملًا، في الدوائر الأدبية العربية، حتى بدايات القرن العشرين، إلى أن بدأ الاهتمام النقدي العلمي، على يد “سهير القلماوي” في أطروحتها للدكتوراه عن “ألف ليلة وليلة”، بالجامعة المصرية، بعد عودتها من باريس عام 1939م، وحصولها عليها عام 1941م، تحت إشراف “طه حسين”؛ وهو ما فتح الباب على مصراعيه نقديًّا وإبداعيًّا، صوب النص الشهرزادي، الذي أثبت أنه نص قادر على البقاء والصمود، حيال هذا الانفتاح التأويلي؛ النقدي والإبداعي.
“هذا الاستلهام المعاصر لتراث ألف ليلة وليلة، قد أسهم – بشكل أو بآخر- في تأصيل الخطاب الإبداعي العربي، وتجذر رؤية الحضارة الشـرقية”
ومثَّل نص الليالي العربية، مصدر إلهام لكتاب الغرب والشرق؛ حيث اتسع أفق الخيال الإبداعي الغربي، عقب ترجمة “جالان” لبعض نصوص ألف ليلة، وانتشارها في أوروبا، عبر الترجمات المتعددة؛ حيث اكتشف الكتَّاب الغربيون، عوالم مغايرة تمزج الخرافي بالأسطوري، والعجائبي والسحري بالواقعي، فاستلهموا منها ما يناسب أدب الكبار والأطفال؛ مثل قصص “علاء الدين، وعلي بابا، والسندباد، والأميرة الصغيرة، وغيرها”، التي صارت جزءًا من ثقافة الأطفال في أوروبا، إلى جانب صدور أول صحيفة للأطفال في فرنسا في القرن الثامن عشر؛ تحت عنوان “صديق الأطفال” بين عامي ( 1747- 1749م). وعلى الصعيد العربي، فقد استلهم المبدعون العرب، بأجيالهم المختلفة، عوالم شهرزاد، وتناصوا معها، للتعبير عن راهنهم، وواقعهم المعيش، أملًا في تغيير المسلَّمات الاجتماعية والسياسية، التى تعاني منها الشعوب؛ مثما نرى عند “طه حسين في «أحلام شهرزاد» «وتوفيق الحكيم» في «شهرزاد»، و«القصر المسحور» لهما معًا، وعلى أحمد باكثير في «سر شهرزاد»، ونجيب محفوظ في “ليالي ألف ليلة”، وألفريد فرج في «على جناح التبريزي وتابعه قفه»، وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف في «عالم بلا خرائط»، وعبد الرحمن جبير فى “شهرزاد ملكة”، وبدر الديب في «حكاية تودد»، و«إعادة حكاية حاسب كريم الدين وملك الحيات»، وليانة بدر في «عين المرآة»، وحسام فخر في روايته «حواديت الآخر» … وغيرهم”.
على أن هذا الاستلهام المعاصر لتراث ألف ليلة وليلة، قد أسهم – بشكل أو بآخر- في تأصيل الخطاب الإبداعي العربي، وتجذر رؤية الحضارة الشـرقية، في المحيط الثقافي للحضارة العالمية؛ وهو ما يبرز في قول “نجيب محفوظ” عن الليالي: “«… وجدت في (ألف ليلة) أشياء ودوافع تدعوني للكتابة عنها؛ ومن ثم كانت روايتى (ليالي ألف ليلة)».