أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): العالم طلسم.. والكنز هو الله

تعودتُ السير بين الحقول الخضراء وجداول المياه في قريتي. أحبُ هذا الصمت الممتد أمامي ودفء الشمس ورائحة الطمي، وتلك الموسيقى التي أسمعها من طيور لا أراها.

كنتُ أبتعد قدر ما أستطيع عن البيوت وضجيج البشر ونداءات الباعة مُستمتعًا بطبيعة حرة. فالطير يغني كما يحلو له.. الضفادع تقفز بين ماء وماء.. والسحالي تطل برأسها من جحورها. هنا وهناك فراشات ودبابير..

صورة تعبيرية

 

وإذا بي فجأة أشم رائحة نتنة جعلتني أكتمُ أنفي، ثم وجدتني أمام جثمان مجوف لبقرة نافقة ملقاة على حافة المصرف النائي.

تعجبتُ لمرأى هذا الجثمان الضخم ولا أدري لماذا تحاشيتُ التحديق فيه! أليس جزءًا من الطبيعة الساحرة التي أستمتع بها؟ هل هو الرعب من رؤية الموت ماثلًا أمام ناظري؟ أليست هذه نهاية كل حي؟ كلنا آجلًا أم عاجلًا ننتهي إلى كومة عظام يواريها الثرى.. هل هو شعور خفي بحرمة الموت ومهابته أم القرف من بشاعة المنظر؟

 

كيف يلتقط الهدهد من الأرض دودة ثم يتقرب بها إلى وليفته تعبيرًا عن الحب كي ترضى به شريكًا، لن يتردد في إطعامها؟ أي علاقة عجيبة بين “الدودة” و”الحُب”؟

 

الدود والحب والجمال

ما لفت نظري أكثر أن أربعة أو خمسة من طيور أبي قردان كانت تدور حول الجثمان وتلتقط الديدان.. فقلتُ في سري: سبحان الله.. طيور لطيفة وألوانها بيضاء صافية ومناقيرها صفر رائعة، تبدو في منتهى الجمال، مع ذلك تقتات على “ديدان وحشرات”؟ كيف يتشكل طائر جميل مثل هذا من أكل الحشرات والديدان؟ أي قانون خفي، يحول كل ما هو كريه المنظر والرائحة إلى طعام، يتكون بفضله طائر جميل مثل أبي قردان، أو مثل الهدهد بريشه وتدرجات ألوانه الخلابة؟!

كيف يلتقط الهدهد من الأرض دودة ثم يتقرب بها إلى وليفته تعبيرًا عن الحب كي ترضى به شريكًا، لن يتردد في إطعامها؟ أي علاقة عجيبة بين “الدودة” و”الحُب”؟

يُقال إن أبا قردان لا يبني عشًا، ويكتفي بدفء الجماعة، فهو يتجمع مع الأهل والأقارب والجيران جميعًا فوق شجرة واحدة حتى تمتلئ فروعها بالعشرات من الطيور البيضاء. فهل يرفض هذا الطائر العجيب فكرة الامتلاك والتمايز عن الآخرين بعدما رأى كل يوم جثامين تتحلل إلى دود وعظام؟

هل تحجبنا الأعشاش والبيوت بكل ما تثيره من أطماع وأحقاد عن إدراك حقيقة الوجود؟

فضّل علينا الطيور؟ 

ربطتني طفولتي في القرية بالطيور.. الدجاج والبط والإوز وعصافير الدوري واليمام والحمام.. تلك الأسراب المهاجرة والعائدة تحت شمس غاربة.. وكثيرًا ما افترضتُ أن وقوف طائر ما بالقرب مني، بمثابة رسالة موجهة إليّ.. من السماء ربما.. فلا بد أن الطائر يعرف شيئًا عني لا أعرفه عن نفسي.. ولما لا؟ ألا يحلق قرب الشمس والسماء؟ ألا يطير فوق الأنهار والبحار والجبال مجتازًا آلاف الكيلومترات؟

 

هل فضّل الله الطير علينا؟ هل كان من الأفضل لي لو خلقني الله مثل اليمام البري، أعيش في أعالي السبح أسبح ولا أتوقف عن الهديل؟ وفي الفلكلور أن هديل اليمام يقول: “اعبدوا ربكوا.. اعبدوا ربكوا”.

 

لا يبدو الطير مسجونًا مثل معظم الكائنات في بيئة بعينها، ولا في بيوت وبلدان مثل البشر.. يطير حرًا ويغني.. المُلك لك لك يا صاحب الملك.. يسافر بلا جواز سفر.. ويفعل ما يحلو له فيرتقي قمة الجبل أو يهبط عند نبع ماء أو يرقص في الهواء.

يحب أكثر مما نحب نحن البشر، ويصل في العشق إلى مرتبة الإخلاص التي قلما نصل إليها نحن. وكثيرًا ما يموت الطير العاشق حزنًا وكمدًا على فقد الوليف.

لا يهم إذا كان يقتات على الديدان والحشرات، لا يُهم هل يبني عشًا أم يختبئ في ثقوب الأشجار.. المهم أنه أكثر سعادة منا.. ويفضلنا في خمسة أشياء: في الحرية، والعشق، والغناء، والترحال، والقرب من السماء.

فهل فضّل الله الطير علينا؟ هل كان من الأفضل لي لو خلقني الله مثل اليمام البري، أعيش في أعالي السبح أسبح ولا أتوقف عن الهديل؟ وفي الفلكلور أن هديل اليمام يقول: “اعبدوا ربكو.. اعبدوا ربكو”.

منطق الطير

ثمة تصور لدينا أن الخلق درجات، مثلما ننظر بخسة إلى الزواحف والخنازير، ونقرنها بالقبح والشر، تبدو لنا الطيور مثالًا للسمو والجمال والحب، وتتخذ منها البلدان شعارًا لها على أعلامها. كما تحتفي بها سائر الكتب المقدسة.

عندما سأل إبراهيم ربه عن سر الموت والحياة، وهل حقًا يقدر الخالق أن يعيد مخلوقاته إلى الوجود، أمره الله أن يُجري بنفسه تجربة حية على أربعة من الطير، ذبحها وخلط أشلاءها، ووضعها على جبال مختلفة، ثم ناداها فنهضت من موتها. لماذا لم يأمره الله بأن يأخذ خرافًا أو ضفادع؟ ألا يدل ذلك على أن الطير أقرب إلى كلمة الله ومعيته؟

وعلى قدر ما أوتي سليمان من معجزات وملكات، كان أعظم ما أُوتي من حكمة أنه تعلم “منطق الطير”.

هذا الحضور المقدس للطيور: رمز الحب والجمال والسمو، لا يقتصر على الأديان التي نعرفها، بل هو موغل في الوعي الإنساني منذ آلاف السنين، فقد رمزت الحضارة المصرية إلى الروح باعتبارها طائرًا يغادر جسد الإنسان. اتخذت الروح/الطائر، ثلاثة أسماء تشير إلى ثلاث وظائف، فتسمى “الكا” التي تمنح الجسد القوة والحيوية، وتغادره عند الموت لكنها تظل قريبة منه كي تساعده، و”البا” التي تتمتع بحرية الحركة وتكون على شكل طائر له رأس الميت، كما تستطيع أن تتخذ أشكالًا أخرى منها شكل الميت نفسه، ثم “الآخ” وهي تظهر بعد الوفاة وتصل إلى مرتبة سامية من خلال الاستنارة.

لماذا وكيف فكر المصري القديم في أحوال الروح العجيبة هذه، كمانحة القوة والحيوية للجسد، وحامية له، ومتخذة أشكالًا عدة -بعد الموت- ومتسامية إلى مرتبة أعلى؟ ولماذا جسدها في هيئة طير مقدس كالصقر والبجعة؟

هيمنت تلك الكناية المصرية القديمة على أدبيات التصوف عمومًا، فأصبح الطير استعارة عن الأرواح.. وفي الحديث الشريف إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر.

كأن الوعي الإنساني ربط بين خلود الأرواح وعودتها وتشكلها، وبين ألوان وأشكال الطيور اللامتناهية، مثلما ربط مصير الأرواح وجدارتها بالسمو والحب والجمال، مثلما هو حال الطيور.

درس الببغاء

في مثنوي جلال الدين الرومي قصة عن ببغاء، مفادها أن صاحبه التاجر رأه ميتًا في القفص، فأخرجه، فلما غادر القفص دبت الروح في جسد الببغاء مرة أخرى، وألقى على التاجر حكمته. لن تصبح حرًا إلا حين تتحرر من جسدك/قفصك. بكل ما يشدك إليه الجسد من رغبات وشهوات تُعميك عن رؤية الجمال، وإدراك الحب.

ومن قبل الرومي كتب ابن سينا وكتب الغزالي “رسالة الطير” قبل أن يضع فريد الدين العطار سفره الملهم “منطق الطير” متأثرًا بكل من سبقوه.. صور العطار رحلة الطيور الثلاثين بحثًا عن الملك “السيمورغ”، واختار لهم الهدهد مرشدًا روحيًا ودليلًا. أليس هو أكثر الطيور براعة في العثور على الماء أصل الحياة؟

وخلال الرحلة اختلفت الطيور حول من أحق بالرئاسة، وكثرت الأعذار، وتبدلت الأحوال وزادت الابتلاءات، لأن العطار أرادها قصة موازية، واستعارة شعرية عظيمة لرحلة بحث الإنسان عن الله. فرحلة الطيور هنا ليست على ظاهرها، وإنما على باطنها.

يقول العطار: “وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائرًا طلعة السيمورغ في مواجهتهم، وعندما نظر الثلاثون طائرًا على عجل، رأوا أن السيمورغ هو الثلاثون طائرًا”. ما يعني بلوغهم “عين التوحيد”، فالرحلة انتهت، والظلال سقطت، والرغبات تلاشت، وفنيت الأرواح في الروح الخالدة وهو ما يسمى “وحدة الشهودة” حين لا تنشغل العقول بالأسباب بل بالمسبب، وتفنى القلوب في محبة الخالق لا المخلوق. فطير العالم كله ما هي إلا ظل للسيمورغ.

طائر الفينيق... طائر السيمرغ
طائر السيمورغ – الفينيق

 

فالعطار يأخذ طيوره في رحلة عبر وديان الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفناء.. ليخبرنا نحن شيئًا عن “الموت”، ليس ذلك الموت المادي وتحلل الجلد والعظم، بل موت آخر للرغبات والأحقاد والأطماع. تطهير للنفس عن كل ما علق بها من شوائب، كي تسترد روح الطيور الهائمة في معية خالقها.

وقد شاع بين الناس أن من حلّ الطلسم فتح له الكنز، ومن ثم فإن هذا العالم كله بمخلوقاته وطيوره وأرضه وسماواته ما هو إلا طلسم، والله هو الكنز. وما رحلة الطيور في طلب السيمورغ والفناء فيه، إلا عبور كل الطلاسم التي تكبلنا وتحجب عنا نور الحب والحقيقة.

وقد سأل أبو بكر الشبلي رجلًا: أتدري لمّ لا يصح توحيدك؟” قال: لا، فقال: لأنك تطلبه بك”.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *