أحدث الحكايا
التهام الكتب!

شريف صالح يحكي: القراءة.. المضادة للقراءة!

أطلق تطبيق “أبجد” تحديًا لمدة شهر، شارك فيه 5800 قارئ من دول مختلفة، قرأوا ما يزيد عن 105 آلاف كتاب، بمتوسط 18 كتاب لكل شخص، أي أكثر من نصف كتاب في اليوم كحد أدنى.

تحدي أبجد للقراءة

 

وفاز في التحدي طالبة جامعية من المنصورة، قرأت 1498 كتابًا. يبدو الرقم مثل الفواتير الحكومية واستفتاءات الانتخابات التي لا تصل لمئة في المئة. ولا أدري العائق الذي منعها من إضافة كتابين صغيرين لتصل إلى الرقم 1500، بمعدل خمسين كتابا كل يوم.

لو جارينا لعبة الأرقام المنمقة والمذهلة، فالشابة التي خاضت التجربة باسم “روكسي”، كانت تقرأ كل يوم حوالي مليون وربع مليون كلمة (لو متوسط الكتاب 25 ألف كلمة) وتنتهي من كل كتاب في أربعين دقيقة، ما يستوجب وضع تجربتها في موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

 

غلاف رواية الحرافيش لنجيب محفوظ

 

هل يمكن قراءة ملحمة الحرافيش في ساعة؟ نحن لا ندري شيئًا عن أحجام الكتب التي اختارتها، ولا نعرف نوعيتها.

 

علينا أن نصدق “روكسي”!

وحسب تصريح لها بلغ تفرغها للقراءة 21 ساعة، بينما وجباتها الثلاث والنوم والعلاقات الاجتماعية والرد على الموبايل والذهاب بالضرورة للحمام، كل هذه الأنشطة أعطتها “ثلاث ساعات” فقط! علينا أن نصدق ذلك بالضرورة. فما الداعي لأن نُكذّب “روكسي”؟

زعم التطبيق أن التحدي لتشجيع القراءة، وخصص “جوائز قيمة” منها “تابلت” قراءة، واشتراكات مجانية. حملة دعاية مطابقة لأي شركة تروّج مساحيق الغسيل أو أجهزة التكييف، وتعتمد على إنجاز كمي.

عصر التفاهة

تشير “روكسي” إلى أنها في البداية تضايقت، وكادت تترك “التحدي” حينما وجدت أحد المتسابقين حاز على 2000 نقطة، في وقت قليل. فكل ما يهمها ـومن شاركوا بضراوةـ هي المنافسة ذاتها، وهو ما يناسب عصر التفاهة الذي أحالنا إلى حيوانات استهلاكية متنافسة بضراوة، حتى لو لم يكن هناك موضوع أو ضرورة للمنافسة. من يأكل مئة رغيف حواوشي أو يشرب عشر جالونات كاتشاب.

بالذكاء السياسي والرأسمالي يروج التطبيق لأرقام التحدي المذهلة، لكنه لا يخبرنا ما قائمة الكتب التي قرأتها “روكسي”؟ هل كانت تقرأ حقًا أم تفتح الكتاب وتفر صفحاته إلكترونيًا؟ والتطبيق يتيح ذلك.

إن القراءة عمومًا فعل ميؤوس منه إزاء لا نهائية الكتب، من ثم فإن الامتناع عنها والاكتفاء بلقب “لا قارئ” يبدو مفهومًا طالما أنني لن أستطيع قراءة كل الكتب التي أحبها، فلماذا أعذب حالي؟

غلاف رواية زوربا اليوناني

 

لكن ذلك النزوع المأساوي لفعل القراءة، يدفع آخرين إلى الانتقاء، أي اختيار ما يشكل أهمية قصوى في لحظة معينة. الكتاب الأخير إذا جاز التعبير. أو الاكتفاء بكتاب واحد يغني عن لا نهائية المكتبة، مثل زوربا اليوناني أو هاملت أو الأوديسة.

 

إن التوجه لا يرتبط فحسب بالمزاج والذوق الشخصي، بل بتصورنا للمعرفة وكيفية تداولها وإنتاجها. الأمر يشبه الاكتفاء بامرأة واحدة طالما لن يستطيع الرجل الزواج من كل نساء العالم. امرأة واحدة تعكس الجميع، وتجعلنا نفهم كل النساء ونعرف كيف نتواصل معهن.

عداد النقاط وفرائس اللعبة

لكن “التحدي” ينسف فكرة التوجه الضرورية فلسفيًا، وحسبما أشارت “روكسي” فإنها كانت تذهب لأعمال قصيرة (جرت التعمية على تلك الكتب ولم تذكرها). أي تقرأ بلا أي حس قرائي. ليس من أجل مزاجها، ولا تذوق، ولا الاستمتاع بأي شيء، ولا لتداول وإنتاج معرفة.. تقرأ كي تلاحق عداد النقاط وتطارد بقية الفرائس في اللعبة، كحيوانات استهلاكية مستعدة لشرب الكاتشاب حتى الموت. (ماذا يعني القراءة لمدة 21 ساعة يوميًا إلا تدمير الوظائف الحيوية للجسد؟!)

كانوا قديمًا يكتبون على جدران المدارس عبارات من عينة “القراءة غذاء للروح” أو “للعقل”، لكن هذه قراءة ضد الروح والعقل معًا، مجرد تغذية لعدّاد النقاط.

يربح التطبيق الدعاية مقابل مبالغ زهيدة، وتربح الفتاة التباهي بقدراتها الخارقة، ما يذكرنا برجل دين استمات لإقناعنا أنه قرأ مئات الآلاف من الكتب!

 

قدرات خارقة!

 

التدليس والتعمية

إن السوء ليس في الغايات المضمرة للتحدي فقط، بل في التدليس والتعمية، في الفراغات غير المجاب عنها. فالفتاة التي حدثتنا عن لهاثها لقراءة “أعمال قصيرة” لا تسميها، تعود وتخبرنا بأنها تحب القراءة لنجيب محفوظ وجورج أورويل وستيفان زفايغ وستيفن كينغ. اختارت أسماء كبيرة ومكرسة، للتباهي ليس إلا.. لأنه من غير المتصور عقلًا أن تقرأ أعمال محفوظ كلها (حوالي ستين كتابًا) في يومين اثنين (وهذا أقل من معدلها المزعوم!).

يُضاف إلى ذلك أن القراءة فعل ذاتي، وليست فعلًا تنافسيًا مثل مصارعة الكلاب. لا يهمني ماذا يقرأ غيري الآن، ولا بأي معدل. لأنني يمكن أن أقرأ صفحة تدوخني أو جملة تجعلني ألف وأدور حول نفسي وحياتي كلها. ثمة عملية تذوق وامتصاص للمعرفة تجعلني أغمض عيني أو أغلق الكتاب مؤقتًا. جمال يصدمنا فنضطر للابتعاد ثم العودة.

تسحبنا الكتب العظيمة إلى التماهي مع وعي أعظم، وتصعد بنا في معراجها إلى عوالم أكثر رحابة، بكل ما يتطلبه ذلك من لذة البطء، ومعاودة قراءة السطور، والتوغل في المتاهة والغابة وما وراء السطور، والبحث فيما لم يقله النص.

 

كتاب تصوف لكازانتزاكيس

 

أتذكر افتتاني بكتاب “تصوف” لكازانتزاكيس، وهو دون مئة صفحة ـ إن لم تخني الذاكرة ـ ورغم صعوبة بعض أفكاره لكن صعقني الكتاب الشفيف التائه بين الشعر والفلسفة والميتافيزيقا، والمعذب حول سؤال الوجود، وعلاقتنا نحن البشر الفانين بالروح الأبدية الخالدة.

تعودت كل ليلة أن أكتفي بصفحة أو صفحتين وأقيم حوارات لا تنقطع معه. لأن الكتاب ليس مجموعة الأسطر التي تكونه، بل بوابة سحرية إلى كتب وكُتاب آخرين، وتاريخ وفلسفة وشعوب وعوالم.. كل كتاب إحالة لا نهائية على المعرفة الإنسانية. وليس رص كلام في سطور لتمر عليها العين بأقصى سرعة ممكنة.

 

القراءة ثلاثية الأبعاد

لذلك في ورش الكتابة التي حاضرت فيها كنت أتحدث دائمًا عما أسميه “القراءة ثلاثية الأبعاد”؛ ففي اللحظة التي تنتقي كتابًا نيابة عن لانهائية الكتب، كي تقرأه، أنت تقرأ معه ذاتك وتجاربك وإسقاطاتك.. مثلما تقرأ من خلاله الكون كله بكل تجاربنا الإنسانية. ومن دون ذلك ليس كتابًا، وليست القراءة قراءة.

يصدف أن أقرأ مقالًا لناقد حضر جيدًا أدواته ومصطلحاته، وصال وجال في الشرح والتحليل، لكنه قدم لي الكتاب مثل جثة محنطة، ولم يفتح لي بابًا سحريًا إليه. صحيح أنه قرأ لكنها قراءة عمياء لا تضيء.

ويصدف أن أقرأ نصوصًا لكتاب، لا شك أنهم يتابعون الآداب المختلفة، لكنها خالية من لمعة الموهبة، ومن ذلك الجهد القرائي، يستمرون في البقعة ذاتها عاجزين عن تطوير تجربتهم.. مقارنة بقصة واحدة ليوسف إدريس مثل “طبلية من السماء” التي تجعلك تشعر أن معظم ما ينشر تحت مسمى قصة قصيرة ليس أكثر من هراء.

إن العلاقة مع القراءة لابد أن تكون علاقة صراعية، علاقة تحد مع ما يعجزنا فهمه، مع زلزلة بديهياتنا، وفتح معارك كثيرة لم نكن مستعدين لها، فقراءة رواية جيدة كافية لتدمير مسودة كتبتها.

لكن الأرقام المعلنة للتطبيق، تعني أن قراءة “روكسي” لا تتجاوز إصبع السبابة، فرت الكتب بسرعة كبيرة تعبيرًا عن احتقارها لها، فتوجها التطبيق “أفضل قارئة”!

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *