أحدث الحكايا

حاتم حافظ يحكي: الكاتب الفاشل صمويل بيكيت!

رن الجرس ذات مساء في بيت صمويل بيكيت، كان في مكتبه كالعادة ووقتها يكون عبء الرد على التليفون على عاتق صديقته (التي ستصبح زوجته فيما بعد). على الطرف الآخر كان أحد مسئولي جائزة نوبل يبلغها بقرار اللجنة منح بيكيت الجائزة.

ياللكارثة!

لم يكن مسموحا لأحد بأن يقاطعه فترة كتابته لكنها وجدت المسألة قد لا تحتمل التأجيل، كان باب مكتبه مفتوحا كالعادة، وكان الهدوء يسود الجو، ورغم أن بيكيت قد ابتدع منذ سنوات “الصمت” في المسرح وأفرط فيه (حتى أنه كتب مسرحيتين بلا كلمات) كانت ثمة موسيقى لا يمكن سماعها إلا بإنصات في خلفية المكان. اقتربت صديقته بروية ووقفت عند الباب فتمكن بيكيت من ملاحظة طيفها فرفع رأسه مستطلعا. بصوت يقاوم الارتعاش الذي دب في جسدها أخبرته بفحوى المكالمة. شرد بيكيت للحظة ثم قال بصوت مفعم بالفجيعة: ياللكارثة!

مفاجأة غير سارة

في انتظار جودو، إخراج جاري هاينس

 

كانت مفاجأة غير سارة لبيكيت؛ فقد كان الكاتب الأكثر طليعية بين مجايليه، الكاتب الذي يكتب خارج كل مألوف منذ مسرحيته “بانتظار جودو” التي أطاحت بالمسرح كما عرفه الناس حتى ذلك الحين. في كل مسرحية – كما في كل رواية – دلل بيكيت على عدم احتياج الكاتب لقوانين الفن ولا لحرفته، وأن بإمكانه خلق قوانين جديدة لفنه. هو نفسه كتب قبل سنوات قائلا:

أن تكون كاتبا يعني أن تفشل كما لم يفشل قبلك أحد. كان معيار النجاح لديه هو الفشل، الفشل في اتباع كل نجاح سابق. نجحت مسرحياته كما نجحت رواياته لكنها نجحت كفشل في استثمار كل نجاح سابق. الكارثة التي كان يقصدها بيكيت حين عرف بفوزه بالجائزة أنه قد صار ناجحا وأنه نجح كناجح وليس كفاشل كما اعتاد أن يكون. وقتها خالجته فكرة أن موعد موته قد اقترب. كان في الثالثة والستين ما يزال لكنه أدرك أنه لم يعد قادرا على الفشل مجددا، وأن ما صنعه بكتابته أصبح مما يحتاج لفاشلين آخرين أكثر قدرة على الفشل لتجاوزه. ساد الصمت منذ ذلك الحين في حياة بيكيت.

صمويل بيكيت

 

“أحدهم ذكر منذ سنوات أن ما من فكرة يمكن لشخص أن يفكر فيها إلا وقد سبقه إليها أرسطو، وفي عصر سابق على أرسطو نفسه كتب كاتب مصري قديم يشكو من أنه لا يجد فكرة جديدة يمكن كتابتها.”

 

موت المؤلف

في وقت لاحق سوف يكتب أكثر النقاد نبوغا في عصره رولان بارت مقالته الشهيرة “موت المؤلف” والتي يدعي فيها بأن كل كتابة هي إعادة كتابة. لم تكن الفكرة جديدة لكنها كانت أصيلة لدرجة أنها سوف تشكل الحركات الثقافية طوال نصف قرن فيما بعد. أحدهم ذكر منذ سنوات أن ما من فكرة يمكن لشخص أن يفكر فيها إلا وقد سبقه إليها أرسطو، وفي عصر سابق على أرسطو نفسه كتب كاتب مصري قديم يشكو من أنه لا يجد فكرة جديدة يمكن كتابتها. يبدو أن الأفكار التي قيل إنها على قارعة الطريق قد استهلكت جميعها وتم تدويرها عبر القرون على يد كل كاتب. فإن كان ذلك صحيحا فما الذي مكّن كل الكتاب النابغين من أن ينالوا حظهم من الشهرة؟ لا شك أنهم تمكنوا بفضل الفن والذي هو شيء أبعد عن أن يكون مجرد أفكار.

رولان بارت
رولان بارت

 

السر  في الطريقة

الطريقة هي جوهر الفن، الطريقة التي يُصنع بها الفن هي الفن نفسه، لهذا فإنه يحتاج دائما لمغامرين يتحدون الطرق الراهنة، ويكتشفون قارات الخيال التي لم تدرج في خرائط مؤرخين الفن. هؤلاء المغامرون يفشلون في أغلب الأوقات، لأنهم يقدمون فنهم بطرق غير معتمدة رسميا من النقاد، الذين يجتهدون فترة طويلة لاكتشاف قوانين الفن في مرحلة ما فيفجعون بأنهم في اللحظة التي فهموا فيها شروط المرحلة تمكن الفنانون المغامرون من تجاوزها وتجاوزهم. لهذا يشبه النقاد فريقا من المحققين الرسميين يصل في نهاية فيلم جريمة بعد أن تكون الجريمة قد حُلت على يد محقق هاوٍ وغير رسمي.

أطراف الجريمة

هناك دائما ثلاثة أطراف: ذلك الذي يكشف الجريمة مبكرا وذلك الذي يحضر متأخرا وذلك الذي يصنع الجريمة نفسها وينتظر أن تكشف هويته. الأخير بلا شك هو الفنان، الذي يبتكر جريمة، وأفضل الفنانين هم الذين يرتكبون جريمة عفو الخاطر ودون تخطيط لكنها تكون كاملة لحد أنهم يتأخرون هم أنفسهم في فهم دوافعها، لهذا فإنهم يستمتعون بفشلهم لحظة القبض عليهم، ربما لأنهم رغم إدراكهم أنه ما من جريمة كاملة قد فهموا أنهم صنعوا جريمة باستخدام أدوات جديدة أو تسللوا لمكان ارتكابهم لها عبر منافذ كانت تحتاج لخيال جامح. ربما لهذا السبب أيضا يحرصون أغلب الوقت على أن يتركوا أثرهم في المكان، بل إن بعضهم يتمادى بترك أدوات الجريمة وربما بترك مخططاتها بجوار الضحية. لأنه لا معنى لارتكاب جريمة فنية دون ترك إشارة، كما أنه لا معنى لإرسال رسالة غرام دون توقيع صاحبها.

بيكيت نفسه في رواية الحب الأول وبعد أن يفرط في وصف مشهد اللقاء الأول بين الحبيبين حد أننا يمكننا شم رائحة المطر يقطع الوصف مشيرا إلى أن المطر لم يكن يسقط لكنه كان لازما بصريا لمشهد لقاء شخصين على وشك الوقوع في الحب. أستاذه أنطون تشيخوف في رواية أقدم يكتب رواية رومانسية يسخر في متنها من الروايات الرومانسية. كان تشيخوف كاتبا فاشلا لدرجة أنه – وهو الكاتب المسرحي – اتهم بأن مسرحياته بلا فعل مسرحي. أما بيكيت فقد ضحى بالمسرح نفسه لكي يقدم مسرحياته.

تشيكوف

 

“الطريقة هي جوهر الفن، الطريقة التي يُصنع بها الفن هي الفن نفسه، لهذا فإنه يحتاج دائما لمغامرين يتحدون الطرق الراهنة، ويكتشفون قارات الخيال التي لم تدرج في خرائط مؤرخين الفن”.

أوديب كارتونا

في نهاية القرن التاسع عشر كتب مراهق فرنسي يدعى ألفريد جاري مسرحية ليقدمها وزملاء المدرسة. كان مراهقا ومتمردا وغاضبا وساخرا فكتب أكثر المسرحيات مسخرة محولا أوديب الملك (المأساة الأشهر في التاريخ) إلى شخصية كارتونية. المسرح نفسه بدا في مسرحيته كعمل من رسوم الكوميك. كانت مسرحية مراهقين لكن المراهقة المفرطة مكنت جيلا من المسرحيين من اقتحام آفاق جديدة غير معتادة. ورث مراهقته كتاب ناضجون مثل يوجين يونسكو فصنعوا مسرحيات فاشلة تمكنت من النجاح فقط حين اكتشف آخرون فشلا جديدا.

كافكا

 

يمضي الكُتاب اليوم وقتا طويلا لاكتشاف أسباب نجاح أقرانهم (النجاح بالمعنى التجاري) يكتبون روايات يمكن لقارئ عابر وملول وكسول أن يفهمها، بالطرق الأكثر ضمانا، بالاعتيادية نفسها التي تُكتب بها الروايات الساذجة طوال التاريخ، لكنهم أبدا لن يستمتعوا بلحظة فشل واحدة من التي استمتع بها تشيخوف أو بيكيت أو كافكا لأنهم لم يدركوا أنه قد تكون كاتبا معناه أن تفشل كما لم يفشل قبلك أحد.

عن حاتم حافظ

كاتب وروائي وسيناريست وناقد أدبي ومسرحي، يعمل مدرسا في قسم الدراما والنقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية. رئيس تحرير مجلة الفنون التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما عمل مسؤول تحرير في مجلة الفن المعاصر، ومدير تحرير مجلة المسرح، ومحررًا في جريدة الأهرام والأهرام الدولي، ومُشرفًا على قسم الرأي بجريدة البديل، والديسك المركزي بالأهرام المسائي.

تعليق واحد

  1. استمعت ، مقال رائع مختلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *