أتساءل دوما، ما الذي يجعل المرء يقتني كتابا ويترك سواه؟ والسؤال الأهم ما الذي يجعلك تقرأ هذا الكتاب تحديدا الآن؟ بينما يمكن أن تترك غيره لتقرأه بعد سنوات وقد اشتريت الكتابين معا في نفس اللحظة!
لعل هناك ثمة طاقة نتبادلها مع الكتب، نداء غواية خفي، كذلك الذي يجعلنا نقع في هوى شخص من أول نظرة وقد لا نلتقيه أبدا بعد ذلك، بينما قد يستغرق الأمر سنوات، حتى تنفتح قلوبنا لشخص آخر نراه كل يوم. لكنها ليست تلك الطاقة الغامضة أو الغواية الخفية فحسب، “السيد قدر” يريد أن يبعث لك برسالة من هذا الكتاب أو ذاك الشخص.
هذا ما حدث لي تماما
كأي شخص أربعيني يرتاح لما يعرفه ويخشى الدخول في دوائر جديدة، كنت أقاوم مسألة تحديث اللاب توب الخاص بي رغم كل الإشارات التي توحي بأن ذلك الصندوق الأسود يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحمّل عشرات الضربات العصبية على الكيبورد، وسكب أكواب الشاي والقهوة على الشاشة، وسافر لآلاف الأميال، وسقط أرضا عفوا وقصدا أحيانا، وتعرض للإنعاش لدى مستشفى “مول البستان” للصحة الكمبيوترية أكثر من مرة، لكنه بني آدم، والإنهاك باديا عليه، هكذا كان علي أن أواجه تلك الحقيقة المخيفة.. لقد آن أوان تقاعد “اللاب توب” بعد خدمة شاقة تجاوزت العشر سنوات.
المدهش أنه في صباح اليوم التالي الذي اشتريت فيه لاب توب جديد، انهارت طاقة صديقنا القديم مرة واحدة، حتى أنه تحول إلى كتلة صماء لا “باور” فيها ولا حسا ولا صوتا. لوهلة تصورت أنه “يعتب” علي هوان العشرة، ثم انتبهت إلى فاجعة أكثر من “اضطراب المشاعر بين الإنسان والآلة” هذا، كل ما كتبت منذ عشر سنوات، وكل الأفكار والمشاريع المحتملة والمؤجلة، ترقد في سلام داخل “هارد” اللاب توب القديم، الذي دخل في حالة موت إكيلنيكي.
مستشفى البستان
مهلوعا، ذهبت بصديقي القديم إلى مستشفاه المفضلة، اتضح أن الأمر جلل ويحتاج لعدة أيام، لكن الطبيب المعالج استخرج الهارد من جسد اللاب توب وأعطاني إياه، طالبا نسخ ما عليه من مادة مهمة على اللاب توب الجديد، لأن الهارد القديم نفسه في حالة خطرة وقد يرقد في سلام قريبا.
هكذا لبست ثوب د. مجدي يعقوب وتهيأت لعملية نقل “داتا” بين “الهاردين”. إلى الآن لا أعرف أي شيطان/ملاك يريد أن يعلمني درسا ربما، أوحى لي بأن أنقل كل ملفاتي الخاصة من الهارد القديم إلى الهارد الجديد بخاصية “القطع” وليس “النسخ”، ولا أعرف أي لعنة ضربت الهارد القديم في هذا الجزء من الثانية الذي كنت أنقل فيه الملفات منه إلى الهارد الجديد، فأصابه التشنج والتهنج وأصدر صوت حشرجة كائن يحتضر، ثم انطفأ كل شيء.
ضاعت الملفات في “الفراغ اللانهائي” حرفيا، إذ إنها لم تعد على الهارد القديم، ولم تنتقل إلى الهارد الجديد، هي الآن في ذلك الثقب الأسود الذي توجد فيه الملفات حينما نضغط على زر “قطع” ثم ننسى أو لا نستطيع أن نضغط على زر “لصق”.
ثم انتبهت إلى فاجعة أكثر من “اضطراب المشاعر بين الإنسان والآلة” هذا، كل ما كتبت منذ عشر سنوات، وكل الأفكار والمشاريع المحتملة والمؤجلة، ترقد في سلام
الفراغ الكوني
بعد مساعدة من أهل الاختصاص، عاد نحو ثلاثة في المئة من الملفات من منطقة “الفراغ الكوني” التي كانت فيها، واستعدت نحو سبعة عشرة في المئة من مراسلات البريد الألكتروني، أما الباقيين فقد أنشأت لهم مجلدا بعناونيهم فقط التي أتذكرها اسميته “ذهب مع العدم”.
كنت أفكر أي الخسارة أشد؟ المشاريع التي كتبت ونفذت وظهرت على الشاشة، القصص التي طُبعت في كتاب، ووجودهم كأرشيف مهم بالنسبة لي على الأقل، أم أن الخسارة الأكبر في مشاريع السيناريو المؤجلة والأفكار والمسودات والشخبطات ورسائل العتاب واللوم إلى الأحبة التي لم ترسل أبدا؟ والـ 8 آلاف كلمة التي كتبت في رواية كنت أعرف أن الكسل سينتصر علي فيها فإذا بالكسل يصرخ غاضبا لأني بضغطة زر انتزعت منه نشوة الانتصار ومنحتها لـ”الفراغ”.
من الخوف إلى الحرية
في هذه اللحظة تحديدا فتحت لا إراديا كتاب “من الخوف إلى الحرية” سيرة ذاتية ترويها “عفاف محفوظ” وكتبها “خالد منصور” (الناشر: الكتب خان). كنت قد اقتنيت الكتاب قبل أيام من ملحمة “الهارد المغدور”، وقرأت المقدمة وتهيأت لرحلة الاندماج في عالمه، ثم تأخرت في استكمال صفحاته، وعدت له الآن وأنا أعاني “كرب ما بعد الفقد”، وبينما أقرأ بنهم رحلة المحللة النفسية المصرية المغامرة التي واجهت الخوف بكل وجوهه المخيفة، ودخلت معه في معارك ملهمة انتصرت في أغلبها وهي تتنقل من المنيا إلى القاهرة إلى الإسكندرية ثم إلى باريس وصولا إلى نيويورك، وجدتها تشير إلى كتاب Necessary Losses ، خسائر ضرورية، للشاعرة والمحللة النفسية الأمريكية “جوديث فيورست”، وهو كتاب صادر عام 1998 -وللغرابة لم يترجم للعربية حتى اليوم-.
قررت أن أتعامل مع فجيعة اختفاء الملفات بطريقتي المعتادة في تلقي مصائب الفقد، التحلي بالبرود واللامبالاة والتدريب على تشتيت الأفكار الحزينة، والاندماج في الحياة أو على الأقل التظاهر بذلك.
وفيه تتحدث الكاتبة عن أننا كيف ننمو ونتغير من خلال الخسائر التي هي جزء ضروري من الحياة. وبأنه من خلال فقدنا لحماية أمهاتنا، وفقدان التوقعات المستحيلة التي نجلبها للعلاقات، وفقدان أرواحنا الطفولية، وفقدان أحبائنا من خلال الانفصال والموت، نكتسب منظورًا أعمق ونضجًا حقيقيًا وحكمة أكمل حول الحياة. تصف عفاف الكتاب بأنه “من أبدع ما كتب عن كيف يجب أن يتعامل الواحد مع فقد الأشخاص والأشياء والعلاقات بل وحياته ذاتها”.
هل كتبت “جوديث فيورست” “خسائر ضرورية” من أجل تلك اللحظة التي كنت فيها الآن؟ هل حينما قررت عفاف محفوظ أن تروى شيئا من مذكراتها في كتاب “من الخوف للحرية” على سبيل مواجهة تشخيصها المخيف بـ”التليف الرئوي” كانت تكتب هذه السطور لي أنا فقط؟ هل هذا هو سر غواية الكتب الغامض؟ أن سطورها التي كتبت في أمريكا على بعد مئات آلالاف من الكيلومترات يمكن لها أن تربت على كتف رجل مكلوم يعيش على أطراف صحاري القاهرة؟
كنت قد قررت أن أتعامل مع فجيعة اختفاء الملفات بطريقتي المعتادة في تلقي مصائب الفقد، التحلي بالبرود واللامبالاة والتدريب على تشتيت الأفكار الحزينة، والاندماج في الحياة أو على الأقل التظاهر بذلك. ثم جاءت الإشارة إلى “خسائر ضرورية” لتعطي دعما إضافيا في هذا الطريق، وإن ظل اللوم يطرق رأسي كمسمار صلب، متسائلا ماذا لو كانت هناك فرصة للعودة بالزمن للوراء وضغط زر “نسخ” بدلا من “قطع”؟ هنا جاء دور “ميكي” ليعطيني درسا آخر.
درس ميكي ماوس
حتى اليوم لازلت أحرص على اقتناء بعض أعداد مجلة ميكي جيب، ليس على سبيل التسلية فحسب، وإنما على سبيل الدعم، إذ تراجع عدد قراءاها من الأطفال والمراهقين في مقابل سطوة التيك توك وسناب شات، كما أني لاحظت أن المحتوى المقدم في أعداد المجلة في السنوات الأخيرة صار أكثر نضجا وإثارة للتفكير، المسألة ليست حنينا لشيء أحبه، وإنما طقس علاجي في الأغلب.
نسيت قراءة العدد الأخير من المجلة، ثم ظهر لي غافيا بين الكتب، فالتقطته، وبينما أقرأ قصة “ميكي وآلة الزمن”، كان العالم فهمان يشرح لميكي وبندق فلسفة اختراعه لآلة الزمن، قائلا بأن الغرض من العودة للماضي ليس “تحسين مسار الأحداث” لأن “التقدم يولد من الأخطاء، وحتى لو عالجنا أخطاء الماضي سنرتكب أخطاء غيرها”، لكن غرض آلة الزمن هو “أن نفهم أخطاءنا بشكل أفضل”.
لقد عرفت إذن الحكمة مما حدث. ربما لا يكون هناك أي حكمة سوى أني تلقيت رسائل “جوديث فورست” و”العالم فهمان” في توقيت مثالي، جعلني بشكل ما أفكر في إنه ماذا يضيرني في أن أعيد كتابة الرواية من جديد مرة أخرى، لعل في هذه المرة أكون قد استوعبت الأخطاء التي وقعت فيها وأنا أكتبها لأول مرةـ، متقبلا فكرة أن لا حياة دون خسائر، وأن الخسائر ضرورية تماما لاستكمال الحياة.