أحدث الحكايا

زين العابدين خيري يحكي عن خصوصية السينما الغنائية المصرية (1): نطقت لتغني

يقول الناقد الكبير سمير فريد: «يبدو أن السينما المصرية نطقت لكي تغني» في مقال يوضح فيه، أنه لولا الغناء لظلت السينما صامتة حتى الآن، فأول فيلم مصري ناطق، وهو فيلم «أنشودة الفؤاد» الذي بدأ تصويره عام 1931 وعرض عام 1932 كان فيلماً غنائياً.

فيلم “أنشودة الفؤاد”، أول فيلم مصري ناطق

وقبل أن أستطرد في ذكر حكاية السينما الغنائية المصرية منذ البدايات وحتى الآن يجب أن أذكر أن للسينما المصرية بشكل عام والسينما الغنائية منها على وجه التحديد خصوصية شديدة؛ فهي ربما تتشابه مع السينما الأمريكية الهوليودية، في التقنيات وطرق السرد والتصوير وعشق الحكايات الواضحة دون تعقيد، بل واقتبست منها كثيرا، ولكنها رغم ذلك تبقى لها خصوصيتها الشديدة، سواء على مستوى الموضوعات أو على مستوى تركيبة الأفلام وطريقة تضمين الأغاني والاستعراضات بها.

من التياترو إلى السينما

السبب في ذلك أن السينما الغنائية والاستعراضية المصرية لم تولد من فراغ، وإنما كانت وريثة سنوات طويلة من المسرح الغنائي والأوبريتات واستعراضات واسكتشات التياتروهات، وبالتالي عملت السينما المصرية في البداية على نسخ تلك الاستعراضات والمسرحيات الغنائية بشكل ما، ولكن باستخدام تلك التقنية الحديثة، ولذا لم يكن غريبا أن يتم تضمين مسرحية شعرية مثل “مجنون ليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقي ضمن أحداث فيلم “يوم سعيد” (1940) من إخراج محمد كريم وبطولة محمد عبد الوهاب، مع محاولة الربط دراميا بين قصة المسرحية المعروفة والخط الدرامي للفيلم حتى لا يبدو الأوبريت مقحما تماما على الفيلم.

فيديو: أوبريت “مجنون ليلى” من فيلم “يوم سعيد”

أفيش فيلم «يوم سعيد»

الأمر كذلك سيظهر بوضوح في أفلام أم كلثوم مع ظهور البيئات العربية البدوية والتاريخية بتفاصيلها ذات الخصوصية الشديدة وسنرى سجالات غنائية خاصة جدا كما في فيلم “سلامة” بأغنية شهيرة مثل “قولي ولا تخبيش يا زين”.

فيديو: أغنية «قولي ولا تخبيش يا زين» من فيلم «سلامة»

أفيش فيلم سلامة

وسنرى كذلك الاسكتشات والمونولوجات الكوميدية والخفيفة التي ستصبح موضة في أغلب أفلام مرحلة الأربعينات والخمسينات بظهور علي الكسار مرورا بإسماعيل ياسين وشكوكو وحسن فايق وسعاد مكاوي وثريا حلمي وغيرهم، وهو الشكل الذي اعتادوا تقديمه في المسارح والتياتروهات المنتشرة في عماد الدين والفلكي وغيرها من شوارع وسط البلد.

وهو ما سنراه أيضا فيما بعد في الاستعراضات الكبيرة التي ستتضمنها أفلام فريد الأطرش وأنور وجدي مع ليلى مراد وفيروز الصغيرة، ومحمد فوزي، وحسين فوزي مع نعيمة عاكف وسعد عبد الوهاب، وغيرهم الكثيرون. أو ما سنشاهده من ظهور للأوركسترا الكامل الذي سيعزف مع عبد الوهاب في “غزل البنات” وصولا إلى عبد الحليم حافظ في “شارع الحب” و”معبودة الجماهير” وغيرها من الأفلام.

فيديو: أغنية “عاشق الروح” من فيلم “غزل البنات”

أفيش فيلم «غزل البنات»

تراث عريق

فإذا كان الفيلم الموسيقي الأمريكي تطوراً طبيعياً للمسرح الموسيقي هناك في برودواي، فإن السينما الغنائية المصرية كذلك كانت ابنة بيئتها وابنة تراثها العريق جدا في الغناء وفي المسرح بكل أشكاله، لذا لم تجد السينما صعوبة في أن تجد لها أرضا خصبة في مصر تكبر وتنتعش فيها بفضل وجود الخبرات على الأقل على مستوى الكتابة والتلحين والتمثيل والموسيقيين المحترفين المتواجدين بكثرة.

ولم يكن ينقص إلا التقنيات المتعلقة بالوسيلة الجديدة كالتصوير والإخراج وهو ما استعان من أجله المصريون بالخبرات الأجنبية، سواء من عرب قادمين من الخارج كإبراهيم وبدر لاما، أو من الأجانب الذين نشأوا في مصر مثل إستيفان روستي النمساوي الأصل، وتوجو مزراحي الإيطالي السكندري، ومدير التصوير ألفيزي أورفانللي الذي نشأ وعاش في الإسكندرية أيضا  وتعلم التصوير من عزيز بندرلي وأمبرتو مالافسي دوريس صاحبي دار عرض وسينمافون “عزيز ودوريس”، وشهد مع عزيز ودوريس بداية فن السينما في مصر. وهناك أيضا المخرج الألماني فريتز كرامب مخرج فيلم “وداد” وغيرهم الكثيرون من الأجانب الذين ساهموا في تأسيس الصناعة.

الأخوان بدر وإبراهيم لاما

ولا يجب أن نغفل سفر عدد من المصريين إلى الخارج ليتعلموا أصول المهنة ويعودون بخبرات أكاديمية وعملية مثل محمد كريم الذي سافر إلى ألمانيا ليلتحق باستوديوهات أوفا السينمائية التي كانت قد بدأت نشاطها السينمائي منذ عام 1911 حيث عمل في قسم المونتاج ودرس هناك الإخراج على يد المخرج الألماني فريتز لانج وعمل معه كمساعد في عدة أفلام، وفي خلال سنة ونصف السنة فقط أصبح أحد مساعديه الأساسيين مما أكسبه خبرة ودراية بفن الإخراج السينمائي وشارك أيضا كممثل في بعض الأفلام، كما درس كتابة وإعداد السيناريو والتصوير والمونتاج في عدة معاهد سينمائية هناك وانضم إلى عضوية نقابة الممثلين الألمانية، وتزوج من فتاة ألمانية سمت نفسها نعمة الله وعملت معه مساعدة فيما بعد في جميع أفلامه وأنجب منها ابنته ديانا، ثم عاد إلى مصر في أغسطس عام 1926 ليبدأ رحلته في المساهمة في تأسيس السينما المصرية وخصوصا السينما الغنائية بأفلامه مع محمد عبد الوهاب ثم بإخراجه لأول فيلم سكوب مصري بالألوان وهو فيلم “دليلة” من بطولة عبد الحليم حافظ وشادية.

فيديو: أغنية “ماتقولش بكرة” من فيلم “دليلة”

شادية وعبد الحليم حافظ من فيلم “دليلة”

استوديو مصر

وكانت نقطة التحول في هذه الصناعة، تشييد استوديو مصر عام 1934، حيث توالى إنتاج الأفلام المصرية، وكثر عدد المشتغلين في هذا الحقل الجديد. ويعتبر استوديو مصر المدرسة الأولى التي تخرَّج منها كافة العاملين في الحقل السينمائي. كما أرسى قواعد العمل السينمائي، ومثّل مرحلة تطور هامة في تاريخ صناعة السينما وسحبها من أيدي الأجانب وتركيزها في يد المصريين، كما أرسلت بعثات السينمائيين المصريين للتدريب في الخارج ليكونوا نواة لهذه الصناعة.

ستوديو مصر

فسافر على سبيل المثال المخرج كمال سليم إلى فرنسا لدراسة السينما وحاول بعد عودته من فرنسا تعلم اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وامتدت دراسته إلى الفلسفة والأدب والاقتصاد والتصوير السينمائى وأيضاً تعلم الموسيقى وعزف البيانو، وبدأت مسيرته السينمائية بتأليف وإخراج فيلم “وراء الستار” عام 1937، لتتوالى أعماله بعد ذلك والتي من أبرزها “العزيمة” (1939) وهو أول فيلم واقعى في تاريخ السينما المصرية.

لا معايير ثابتة

الخلاصة أن السينما المصرية الغنائية ذات خصوصية شديدة، ولا يمكن أن نطبق عليها المعايير الهوليودية الأمريكية، كما هو الحال مثلا مع السينما الهندية الغنائية والاستعراضية ذات الخصوصية الشديدة والتي لا يمكن لأحد أن يطالب بتطبيق المعايير الهوليودية عليها ليخرج برأي قاطع أن السينما الغنائية الهندية ليست غنائية لأن المعايير الأكاديمية الجامدة لا تنطبق عليها.

فيديو: أغنية “معانا ريال” من فيلم “فيروز هانم”

فيروز وأنور وجدي

مع العلم أنه لا توجد بالأساس تعريفات جامعة مانعة للفيلم الغنائي أو الموسيقي أو الاستعراضي، باستثناء ما أجمع عليه الجميع وهو أن “الفيلم الموسيقي هو نوع من الأفلام ترتبط فيه الأغاني التي تغنيها الشخصيات بخط القصة. بحيث تُستخدم الأغاني لتطوير الحبكة أو تطوير شخصيات الفيلم”. وهو ما طبقناه على الأفلام المصرية.

اقرأ أيضا:

حكاية استفتاء أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية

 

 

عن زين العابدين خيري

كاتب صحفي وناقد فني وسيناريست، تخرج في كلية الإعلام عام 1995، صحفي في مؤسسة الأهرام منذ 1996. رأس تحرير جريدة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية (2022-2023)، ويشغل حاليا منصب رئيس تحرير منصة شهرزاد الإلكترونية، ونائب رئيس تحرير مجلة علاء الدين، والمشرف العام على تحرير مجلة البيت بمؤسسة الأهرام، وبجانب عمله الصحفي يعمل كسيناريست وناقد فني وكاتب لقصص الأطفال، وهو عضو مجلس إدارة جمعية نقاد السينما المصريين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *