أحدث الحكايا

سيد محمود يحكي: حين باتت “الليدي ماكبث” مع صالح سعد في لاظوغلي

ذكرني افتتاح مسرح السامر بذكرى صديقين عزيزين لا يمكن لي نسيانهما أبدا، وهما المخرج صالح سعد والناقد نزار سمك، وقد كانا جزءا أصيلا من سنوات تكويني، عرفتهما في توقيت واحد ورحلا معا في حريق مسرح بني سويف المشئوم والجريمة التي لا تغتفر.

بسببهما كنت أذهب إلى (السامر) في سنواته الأخيرة، وحتى بعد أن تم هدمه وتحول إلى مجموعة من المكاتب الإدارية كنت أذهب إلى هناك وأنا شاب تخرج حديثا لأجلس في حديقة يتحلق حولها الفنانون وكانت تعج بالمواهب الكبيرة.

 

نزار سمك وصالح سعد

 

البداية

تعرفت على صالح سعد أولا، بعد أن شاهد عرضا مسرحيا جامعيا شاركت في إعداده مع المخرج الراحل محمد أبو السعود وأعجبته معالجتي للنص والأغنيات التي كتبتها له، فطلب مني اللقاء معه على مقهى “زهرة البستان “، وهناك عرض علي العمل معه على تحويل (كتاب الموتى) لعرض مسرحي حركي، ثم أخذني إلى مكتبة مدبولي واشتري لي نسخة من الكتاب وقال لي “لما تلاقي حل تعالي لي السامر”.

وحدث أن وجدت الحل وذهبت إليه هناك لتنفتح أمامي حديقة كاملة تمتلئ بزهور كثيرة، كان نزار سمك هو أقواها عطرا وربما الأكثر معرفة وإنسانية.

حكاية كبيرة

أما صالح سعد فهو حكاية كبيرة في حياتي ويد امتدت لي وقدمت الكثير والكثير وأنا في عمر مبكر، لكنه جسد أمامي دائما النموذج الحي لجنون الفنان.

كان صالح مخرجا مسرحيا موهوبا انشغل كثيرا بالبحث عن هوية للمسرح المصري، وأراد ابتكار أشكال مسرحية وثيقة الصلة بتراثنا الشعبي. درس المسرح في موسكو، كما درس التراث الشعبي، وكتب في كافة الأنواع الأدبية من شعر وقصة ونقد كما أنه له مؤلفات مهمة وترجمات مهمة عن الكوميديا المرتجلة.

لفترات طويلة جدا كنت أتحرك معه في الأماكن التي يرتادها حيث كنا نلتقي مع أشخاص لا يمكن جمعهم في جملة واحدة.

أسس صالح سعد فرقة السرادق مع المؤلف محمد الفيل وأصدر معه بيانا عن مشروع الفرقة في وقت كانت الساحة المسرحية العربية منشغلة تماما بقضية الشكل المسرحي، ومن يرجع لتلك السنوات البعيدة سيجد كتابات وأعمال عبد الكريم برشيد، والطيب الصديقي في المغرب وبيانات روجيه عساف (لبنان)، وعبد الله السعداوي في البحرين وفنانين آخرين كانت تشغلهم قضية (الهوية) . وكان صالح من بين هؤلاء لكنه تعمق كثيرا في دراسة حضور المسرح في مصر الفرعونية وقدم عرضا على (السامر) حاول فيه تلمس تلك الفكرة وكان بعنوان (كاني وماني).

 

المخرج المسرحي د.صالح سعد
فرقة السرادق

 

حين التقيت به للمرة الثانية ووضعت أمامه معالجتي لكتاب (الموتى) أبدى إعجابه الشديد وذهبنا بعدها عدة مرات للمتحف المصري وبدأنا البحث في مكتبته عن مراجع كثيرة لخدمة موضوع العرض وذهبنا بالفعل إلى البيت الفني للمسرح وقابلنا رئيسه السيد راضي وقدمنا عرضا للفكرة، فانشرح قلبه وخصص لنا قاعة مسرح الشباب إلى جوار معهد الموسيقى العربية في شارع رمسيس.

الليدي ماكبث ونص شكسبير

وقبل أن نتسلم المسرح اتصل بي صالح سعد وطلب مقابلتي في (السامر) ولما ذهبت له أخبرني أن (الليدي ماكبث) جاءته في الحلم وطلبت منه إخراج نص شكسبير عنها.

لوحة الليدي ماكبث

بدأ صالح يحكي بحماس كيف يمكن تقديم عرض حركي صامت وكل ما علينا التركيز في قراءة كتب عن مسرح شكسبير، ولما قررت الانسحاب من المشروع قال لي “لازم تكمل معايا، لديك فرصة ذهبية لتعلم تقنيات المسرح من داخل التجربة بدلا من التفكير النظري، وطالما بدأت كتابة مقالات في مجلة المسرح فينبغي عليك أن تفهم اللعبة بشكل جيد لذلك أرشحك للعمل معي مخرجا مساعدا للإخراج).

وطبعا وافقت لأني كنت بلا عمل وقتها بعد انتهاء خدمتي العسكرية، كما كنت أحب جنون صالح سعد وطريقته في عرض أفكاره وإقناع من حوله بها.

لفترات طويلة جدا كنت أتحرك معه في الأماكن التي يرتادها حيث كنا نلتقي مع أشخاص لا يمكن جمعهم في جملة واحدة.

وجدت أمامي أربعة أفراد ملتحين جاءوا للفرجة على الشقة المعروضة للبيع، ناديت صالح وجاء في ابتسامة وقورة مرحبا بالمشترين وطاف معهم أرجاء الشقة التي كانت مليئة باللوحات الفنية والآلات الموسيقية والأقنعة الأفريقية.

وقبل أن نشرع في اختيار فريق العمل طلب مني صالح سعد التفكير في اختيار بطلة للعرض تجيد الرقص والتمثيل ورشحت له الصديقة نورا أمين وكانت ترقص في فرقة الرقص الحديث بالأوبرا، وكانت من بين زملائي في فريق التمثيل في كلية الآداب.

وبالفعل التقينا بها وشاهدنا ترقص في الأوبرا وتم اختيارها ومعنا فريق مسرحي جبار ضم معها الصديقة منال إبراهيم، والصديقين المحامي الحقوقي إيهاب سلام والمخرج السينمائي سعد هنداوي، وبالفعل اختير العرض لتمثيل مصر رسميا في المهرجان التجريبي، لكن صالح وافق على نقل العرض من قاعة صغيرة إلى المسرح المكشوف بالأوبرا وبالتالي لم يحقق نفس التأثير الذي أقنع اللجنة باختياره ولذلك اكتأب بعدها بشدة.

وداع مشؤوم

المهم أن اختيارنا لتمثيل مصر دفع صالح لدعوة الفرقة كلها لحفل غداء حافل في شقته بالمعادي وكانت في عمارة الشهر العقاري، وكان صالح يخطط للانتقال إلى شقة أخرى في فيصل ولذلك عرضها للبيع ونشر إعلانا عن ذلك في جريدة الأهرام يوم الجمعة الذي تزامن مع العزومة التي كان يرغب في أن تكون حفل وداع أسطوري للشقة.

وبعد ان انتهت العزومة غادر أعضاء الفرقة ولما أردت المغادرة اقترح صالح أن أبقى معه لنفكر في بعض الأمور التي تخص العرض ومشاهدة شريط فيديو نادر لعرض أخرجه المخرج الإنجليزي بيتر بروك، وما أن شرعنا في ذلك حتى ضرب جرس الباب.

لم يكونوا في انتظار دعوتي فقد دخلوا في ثوان وجابوا الشقة عاليها واطيها، وتسمروا أمام نفس اللوحات وسحبوا كم كتابا من المكتبة وكانت في غالبيتها باللغة الروسية وكتب في الفن والأدب والماركسية.

وحين قمت لفتح الباب وجدت أمامي أربعة أفراد ملتحين جاءوا للفرجة على الشقة المعروضة للبيع، ناديت صالح وجاء في ابتسامة وقورة مرحبا بالمشترين وطاف معهم أرجاء الشقة التي كانت مليئة باللوحات الفنية والآلات الموسيقية والأقنعة الأفريقية التي أثارت ريبتهم وجعلتهم يهربون بسرعة، وما أن نزلوا حتى غرقنا في فاصل من الضحك لم يستمر طويلا لأن ضربات أعنف توالت على باب الشقة من جديد.

ضحك صالح وهو يقول لي “قم وافتح الباب، غالبا دول جماعة الأمر بالمعروف جايين يقيموا علي الحد”. وحين قمت لفتح الباب وجدت أمامي بدون مبالغة كل قوات الأمن التي ظهرت في فيلم الإرهابي، فرقة مدججة بالسلاح احتلت المداخل وانتشرت على السلالم ثم سألني عميد أو عقيد  “فين صاحب الشقة دي؟”. وطبعا تخاذلت وشاورت على صالح وقلت للباشا “صاحبها جوه أهو، اتفضلوا”.

المنقذ خالد الصاوي

لم يكونوا في انتظار دعوتي فقد دخلوا في ثوان وجابوا الشقة عاليها واطيها، وتسمروا أمام نفس اللوحات وسحبوا كم كتابا من المكتبة وكانت في غالبيتها باللغة الروسية وكتب في الفن والأدب والماركسية ثم أخذوا صالح معهم، وهو يرتدي حذاءه قال لي “خليك بايت هنا ولو تأخرت للصبح اتصل بخالد الصاوي وخليه ييجي مع أبوه جمال بيه الصاوي لمقر أمن الدولة يشوفوا إيه الحكاية”.

 

خالد الصاوي

 

وفعلا اتصلت بخالد الصاوي وجاءني بسرعة الصاروخ من بيته في المهندسين إلى المعادي جلسنا على مقهى تحت البيت حتى أطل الصباح وتحركنا في اتجاه (لاظوغلي)، وجاء والده المحامي الكبير وأخرج صالح سعد من غياهب الظلمات، لنكتشف بعدها أن الملتحين الذين جاءوا لشراء الشقة أعضاء في تنظيم جهادي مسلح وكانوا مراقبين من الأمن الذي تركهم يدخلون العمارة ظنا من قياداته أن الإعلان المنشور في الأهرام (مجرد شفرة) وأن التنظيم كله يجتمع في الشقة.

مات صالح سعد بعدها بسنوات وبقينا طوال الوقت نتندر على حلمه بالليدي ماكبث، ورغبتنا في مشاهدة عرض (بيتر بروك) أو حتى الذهاب معه إلى (السامر).

صالح سعد

عن سيد محمود

شاعر وصحفي بالأهرام، رأس تحرير جريدة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة خلال الفترة من 2014-2017 ، شارك في تحكيم جائزة البوكر العربية (2015-2016)، كما شارك في تحكيم عدة جوائز أدبية وإعلامية ونال جائزة دبي للصحافة عام 2018، ومن مؤلفاته كتاب "المتن المجهول، محمود درويش في مصر" 2020.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *