أحدث الحكايا
لوحة شهرزاد وشهريار لماري إليونور جودفرويد

منير عتيبة يحكي: شهرزاد.. حبيبتي الماكرة

لدي حبيبات لا تغار زوجتي منهن، أو ربما لا تظهر هذه الغيرة؛ لأنها علمت أنه حب قديم مستمر لن ينتهي، فاعتبرته مرضًا لا شفاء منه، وعليها تقبله كما تتقبل عيوبي كلها. ربما من أقدم هؤلاء الحبيبات شهرزاد؛ الجميلة التي لا أعرف متى وقعت في حبها، وتبدأ حكايتي معها بـ “كان ياما كان، من زمان ليس ببعيد، ربما أربعون عامًا، أكثر قليلًا، أقل قليلًا، لا يهم، ففي الحب ليس للزمن الخارجي معنى. كان هناك ولد يعيش في قرية صغيرة تقع على أطراف محافظة الإسكندرية، اسمها خورشيد، تطارده امرأة بلا ملامح، يخشى أن تأتيه في الكوابيس شخصيات الحواديت التي تحكيها له جدته؛ أمنا الغولة، أبو رجل مسلوخة، العفريت الذي يتخذ شكل الحمار، وتطول أقدامه عندما يركبه إنسان، النداهة التي تسحر البشر وتغرقهم في ترعة المحمودية… لكنه يحب تلك المرأة التي لم يستطع تخيل شكلها بعد. اسمها وحده يوحي له بسحر عجيب وإن لم يكن يفهم معنى الاسم، فلم ير أو يعرف بنتًا أو سيدة بهذا الاسم في حياته الواقعية.

حكايات شهرزاد

 “شهرزاد”؛ يطالع الاسم في كتاب القراءة والنصوص المدرسية، يستمع إليها في الإذاعة في سهراته مع عمته التي تعمل على ماكينة الخياطة وترفع صوت الراديو على آخره حتى لا تفوتها كلمة من حكي شهرزاد. يتابعها بشغف في المسلسل التليفزيوني الذي يذاع في شهر رمضان من كل عام، ويحرص على أن لا يربط بين صورتها التي لا يعرف ملامحها بعد وبين صورة الممثلة “زوزو نبيل” التي أدت دور شهر زاد في الإذاعة، فكتبت لنفسها الخلود بالكلمة الشهيرة الآسرة “مولااااي”.. ارتبطت زوزو نبيل في أذهاننا بالمعلمة الشعبية، أو المرأة المتكبرة الشريرة، زوجة الأب الظالمة، حتى أنها كانت تقوم بدور العجوز الماكرة الشريرة في مسلسل ألف ليلة وليلة التليفزيوني نفسه، والتي كانت بصوتها الإذاعي القديم تقدم شخصية شهرزاد؛ المعروضة كرسوم متحركة مع شخصية شهريار، وهي تقول: مولاي، عندما تسمع صوت الديك، فتنتهي الحلقة.

حتى عندما قدمت النجمة الجميلة نجلاء فتحي مسلسل ألف ليلة وليلة الذي كتبه أحمد بهجت، وكان شهريارها فيه حسين فهمي؛ حرص الطفل الذي أصبح شابًا على أن لا يربط ملامح شهرزاد بوجه نجلاء فتحي، وظلت نجلاء فتحي في ذهنه عبد الله البري وعبد الله البحري، رغم استمتاعه بظرفها ولطفها ودلالها وهي تقول لحسين فهمي عندما يصيح الديك وتتوقف عن الحكي، فينادي مسرور ليطير رقبتها، “سيبني لبكرة الله يخليك”.

نجلاء فتحي في دور شهرزاد في مسلسل “ألف ليلة وليلة”

شهرزاد.. بنت البلد

لما عرفت أن اسمها فارسي معناه بنت البلد؛ وشهريار أي أمير البلد. حرصت أن تظل بلا ملامح ولم أربط بينها وبين تحية كاريوكا الممثلة والإنسانة التي أعتبرها أجمل نموذج لبنت البلد.. فشهر زاد أجمل بلا ملامح.  ولما استطعت أن أدخر من مصروفي لأشتري طبعة دار الشعب من ألف ليلة وليلة كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بمعنى امتلاك (كنز).

فهم الولد أن ملامح شهرزاد ليست هي المهمة، لا أحد يفكر في وصف صورتها، أو معالم جسدها، أو طريقة مشيها، أو ملابسها، حتى صوتها، نبراته، طريقة نطقها للكلمات، لم يحظ باهتمام كبير. حتى اسمها نفسه مجرد إشارة إلى مكمن السحر، ولكن أين يكمن هذا السحر؟

سحر الحكاية

اكتشف؛ ذلك الولد الذي أصبح شابًا، أن السحر الحقيقي هو في الحكاية التي تحكيها شهرزاد، وكيف تحكيها بهذا الجمال، وهذا التشويق، وهذه اللغة الآسرة التي تجعلك لا تفلت من أثر الحكاية، ولا تجعلك قادرًا على الابتعاد عنها، مثلما فعلت بشهريار، فترك عنفه وثأره من المرأة التي خانته، بل وانشغل عن حياته وملكه، وانشغل عن شهرزاد المرأة نفسها، منشغلًا بكليته بشهرزاد الحكاية.

اكتشفت أنني ورثت هذا الشغف الشهرياري بالحكاية، لدرجة أنني جعلت كلمة (حكاية) عنوانًا للكثير من كتبي ومن أعمالي، وعندما أقول إن القصة القصيرة هي حبي الأول؛ أكتشف أن السبب في ذلك هي شهرزاد، لأن ما تحكيه هي قصص قصيرة متتابعة، مترابطة أحيانًا، غير مترابطة في أحيان أخرى، في إطار روائي فضفاض، لأعرف أن حياتنا ليست رواية كما يظن البعض، بل هي قصص قصيرة، نبدأ بعضها ولا نستطيع أن ننهيه، وننهي بعضها قبل أن نكتشف أنه بدأ توًا. 

“اكتشفت أنني ورثت هذا الشغف الشهرياري بالحكاية، لدرجة أنني جعلت كلمة (حكاية) عنوانًا للكثير من كتبي ومن أعمالي، وعندما أقول إن القصة القصيرة هي حبي الأول؛ أكتشف أن السبب في ذلك هي شهرزاد”

كانت جدتي تقول إن شهرزاد هي أشهر وأهم من يحكي الحكايات، والنقاد يقولون إنها أهم ساردة في التاريخ، سحرت العالم شرقًا وغربًا، حملت جراب الحواديت، ووضعت يديها فيه، وأخذت “تكبش” منه بكل كرم، وتنثر في سماء العالم، فيلتقط كل كاتب بقدر جهده وموهبته قبسًا من نور حكاية شهرزاد. إنها لم تسحر الكُتَّاب فقط، بل سحرت الجميع؛ الموسيقيين والمخرجين والشعراء والرسامين والناس العاديين. عندما يذكر سحر الحكاية؛ لا يخطر بذهني سوى شهرزاد، المرأة التي لم أستطع أن أرسم لها ملامح في ذهني بأي مرحلة من مراحل عمري.

إعادة اكتشاف شهرزاد

ربما بعض القراءات النقدية بعد ذلك جعلتني أرى شهرزاد في ضوء مختلف، وبصورة مغايرة. كنت؛ كغيري، أعلم أن لألف ليلة وليلة مؤلفا أو مؤلفين مجهولين، لذلك نُسِبت حكاياتها إلى شهرزاد، ثم ببعض المعرفة النقدية عن أنواع الساردين بضمير الغائب، والمتكلم، والمخاطب، والفروق الدقيقة بين الكاتب، والسارد، والسارد الضمني، والشخصية الروائية أو القصصية، والقارئ، والقارئ الضمني إلخ، عرفت أن شهرزاد لم تكن ساردة الليالي، بل هي شخصية روائية خطيرة وماكرة، استطاعت أن تسحر السارد العليم وتسرق صوته لتحكي هي الحكايات كلها وتقدمها إلى العالم وكأنها حكاياتها هي. السارد العليم يحكي عن مأساة شهريار مع زوجته الأولى، ثم قتله للنساء ليلة بعد ليلة، ثم زواجه من شهرزاد التي تبدأ في حكي الحكايات لتأسره بها، وتؤجل قتله لها حكاية بعد حكاية، وليلة بعد ليلة. يقع السارد العليم في أسر سحر شخصيته الروائية، فيتنازل لها عن دوره، ويتركها تحكي، ويتراجع لتقف وحدها تحت الضوء، بل لتكون هي الضوء نفسه، ضوء الحكاية المشعة منذ أول مرة عرف العالم فيها ألف ليلة وليلة حتى الآن. 

“كانت جدتي تقول إن شهرزاد هي أشهر وأهم من يحكي الحكايات، والنقاد يقولون إنها أهم ساردة في التاريخ، سحرت العالم شرقًا وغربًا، حملت جراب الحواديت، ووضعت يديها فيه، وأخذت “تكبش” منه بكل كرم، وتنثر في سماء العالم”

شهرزاد لأنا ريتبرج

 

حكايات مستمرة بلا انقطاع

ربما كان بعضٌ من سحر شهرزاد أنها حملت ثقافة العالم الذي تحكي عنه، تاريخه، وجغرافيته، وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، وأنماطه النفسية، عالم التجارة والسياحة والرحلات، كيف كان الناس يحبون ويكرهون ويتآمرون، السحر الخفي، العالم الماورائي الفوقي والتحتي… شهرزاد كانت صوت هذه المرحلة التاريخية التي بقي تأثيرها فينا حتى الآن ولن يزول، لأنه الصوت الذي وصلنا محمولا بسحر امرأة بلا ملامح خارجية، شخصية روائية آسرة وماكرة، ربما أحببتها أكثر عندما اكتشفت فيها هذا المكر الذي غير صورتها المثالية في ذهن الولد الصغير، لكنه زرع الصورة الأكثر إنسانية في ذهن الشاب الذي قرر بعد أن تجاوز مرحلة الشباب بكثير في البطاقة الشخصية، أن يكون شهرزاديًا بامتياز ويصر على البقاء في منطقة الشباب الدائم بعقله ومشاعره، فمع شهرزاد لن يصيح ديكي أبدًا لأن حكايتنا مستمرة بلا انقطاع.

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

8 تعليقات

  1. صفاء الليثي

    استمتعت كثيرا بالمقال وكأنه يحكي عن الموقع ويعرفه بكثير من التشويق ، مقال سيجعلني أبحث عن أعمال منير عتيبة كلها.

  2. مقال ممتع من أوله لآخره

  3. مقال رائع

  4. فكرة ان تظل شهرزاد الاسطورة والحكائة لكل زمان ومكان ،وان تظل بلا ملامح يجعلها ملهمة للكتاب والشعراء يرسمها الفنان بخياله ويصفها الشاعر بحروفه ويصور ملامحها المبدع كما يتناسب وشخصية بطلته.. لتكون في النهاية، شهرزاد لكل شهريار في كل زمان ومكان .
    المقال شيق وجذاب كتب بسلاسة ،جعلتني ابحث عن بقيته ،شغفا في المزيد
    احسنت استاذ منير عتيبة بورك القلم وفكرك المتقد والي مزيد من الابداع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *