عملت لسنوات في مجال المسرح، كانت من أجمل سنوات العمر. ما زلت أذكر رائحة الخشبة، والكواليس، والديكورات، والأزياء، أذكر تلك اللحظات التي ترقى لأن تكون “مقدسة”، حينما تصل إلى ذروة الحبكة، وتحس بأنفاس المشاهدين وتستمع إلى صمتهم.
إن أجمل ما في فكرة المسرح، أنها تقوم على المؤامرة بين المؤلف والمخرج والممثل على المشاهد، حيث يفترض أن نصدق نحن المشاهدون الممثلين بينما يتفاعلون ويرسمون لنا الأحداث، لنصل معهم وبهم إلى نتائج/إجابات/أسئلة.
لكن صعوبة هذه العملية تكمن في أن الممثل يجب أن يصل في تدربه على النص، وحفظه، ومعرفة خباياه، أن يصبح هو “صانع” هذا النص، وكأنه يقوله الآن وهنا، وهو من تأليفه هو شخصياً. وعلى الرغم من أنه يعرف الجملة التالية، ويعرف جملة زميله، إلا أن عليه أن يفاجأ بها بنفس درجة مفاجأتنا، بحيث تؤثر فيه جملة زميله، كأنه يسمعها للمرة الأولى. لا بد وأن يدهشه الحدث وكأنه يراه للمرة الأولى.
رحلة خيالية خارج العالم الواقعي
يقوم المسرح على اللحظة الآنية التي لن تتكرر مرة أخرى، والعفوية إنما تأتي من دخول الممثل إلى الشخصية التي يجسدها بكل تفاصيلها من طبقة الصوت إلى التنغيم إلى التقطيع إلى مفردات الحركة وتعبيرات الوجه مرورا بأزياء الشخصية وإكسسواراتها وانتهاءً بالطاقة التي تخرج من هذه الشخصية.
وحينما يجسد الممثل شخصيته الجديدة، ويتمكن من إقناع المتفرج بها، هنا يحدث السحر، تحدث المعجزة، ألا وهي عملية الخلق، جوهر العملية الإبداعية في كل مجالات فنون الأداء، عملية الخروج من الشخصية الأصلية للإنسان، والولوج إلى شخصية أخرى، وهو ما يعد نواة العمل الإبداعي: خلق الروح الجديدة.
إن المسرح رحلة إنسانية يخوضها المتفرج بصحبة الممثل الذي يخدعه ليسرب إليه الفكرة، ومع أن المتفرج يعلم تمام العلم أنه مخدوع، وأن ما يحدث الآن “ليس سوى مسرح/تمثيل/كده وكده”، إلا أنه يصدق الممثل الذي يصدق نفسه أولاً فيصدقه المتفرج. هي رحلة خيالية خارج العالم الواقعي، خارج الشخصية الواقعية. رحلة نتعرف فيها على أفكار جديدة أو أفكار قديمة جديدة.. رحلة بغرض التعرف على الذات.
قداس جنائزي لموتسارت
في عام 2010 صعدت إلى خشبة المسرح مع زميلي الجميل الراحل المخرج الكبير محمد أبو السعود، وكان أن قدمنا مسرحية بعنوان “قداس جنائزي لموتسارت”. لكم كانت أياماً بديعة! رحم الله صديقي العزيز أبا السعود.
ما كان يحركنا آنذاك واحدة من المآسي “التراجيديات” الست التي كتبها شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين، وحملت عنوان “موتسارت وسالييري”، وهي العمل الثالث في سلسلة التراجيديات الست التي نشرها بوشكين عام 1831.
عداء أم منافسة أم صداقة؟
استند بوشكين في روايته إلى عدد من المجلات الألمانية في هذا الشأن، دون أن يفصح عن مصدره لتلك الشائعة، بل إنه ذهب أبعد من ذلك وأراد أن يكتب المسرحية الصغيرة وكأنها مترجمة عن الألمانية مُلقياً على عاتق الجريدة المجهولة مسئولية المعلومة، ومحتفظاً بجدلية القضية كأحد أهم القضايا الإنسانية.
ويعود تاريخ تلك الشائعة إلى عام 1824، بعد ثلاثين عاماً من وفاة موتسارت، حينما قيل إن المؤلف الشهير ومؤلف البلاط المعروف أنطونيو سالييري اعترف أثناء وجوده بمصحة نفسية بقتل موتسارت. والتقطت بعض الصحف تلك الشائعة وعلى رأسها جريدة “برلين الموسيقية العامة”، ثم ظهرت الشائعة ذاتها بعد ذلك في “مجلة الجدل” الفرنسية.
وعلى ما يبدو أن بوشكين قرأ عن تلك الحادثة في إحدى المطبوعتين، إلا أن النقاد ردّوا في تلك الفترة على تلك الشائعات وأكدوا أن موتسارت وسالييري ارتبطا بعلاقة يسودها الاحترام، وكان ذلك صحيحاً بداية من استقرار موتسارت في فيينا، لكن موتسارت كتب لوالده في 1783 حول سالييري مؤلف البلاط ولورينزو دا بونتي شاعر البلاط:
“أنت تعرف أولئك السادة الإيطاليين، يجيدون الابتسام في وجهك! كفى، كلنا نعلم عنهم. وإذا كان دا بونتي في نفس صف سالييري فإنني لن أحصل على النص منه، وأنا أرغب بشدة أن أريهم ما يمكنني فعله هنا بالأوبرا الإيطالية”.
كذلك في العام نفسه كتب موتسارت لوالده حول “ألاعيب سالييري”. لذلك كان من المنطقي أن تسري شائعة دس سالييري للسم وقتل موتسارت نظراً لغيرة المؤلفين الإيطاليين من اتساع نفوذ المؤلفين الألمان في البلاطات الملكية، كذلك وجدت تلك الشائعة تجسيداً مسرحياً لها في عمل ألبيرت لورتزينج “مشاهد موسيقية من حياة موتسارت” (1832) الذي استخدم فيه غيرة سالييري وموتسارت نموذجاً للغيرة بين الموسيقيين، وإعاقة سالييري لموتسارت.
من المدهش أيضاً أن سالييري، ومع أنه كان إيطالياً، إلا أنه عاش في فيينا الإمبراطورية وكان يكتب بتقاليد جلوك وجاسمان الألمان، حتى أن الإمبراطورة ماريا تيريسا صرّحت عام 1772 بأنها تفضل المؤلفين الإيطاليين عن المؤلفين أمثال جلوك وجاسمان وسالييري. حيث إن بعض النقاد كانوا يعتبرونه مؤلفاً ألمانياً. حتى أن سالييري نفسه كان معلماً لكل من بيتهوڤن (الذي أهداه الأخير ثلاث سوناتات للبيانو والفيولينة مصنف 12) وفرانز ليست.
على أن المنافسة أو حتى العداء المهني المحدود بين موتسارت وسالييري لم يتعد حدود التصارع على ليبريتو للأوبرا أو على تلميذة من العائلة المالكة، وانتهى بعد أن استقر موتسارت واشتهر في فيينا بعد 1785، بل إنهما ظهرا في مناسبات عامة بوصفهما صديقين، وكتبا كانتاتا للصوت والبيانو سوياً. وكذلك عرضت أعمال موتسارت الكونشيرتو كوشيل 482 (1785)، وخماسي الكلارينيت (1789) والسيمفونية الأربعين (1788) بتوصية من سالييري الذي قاد تلك الأعمال عام 1791، وحكى موتسارت لزوجته آنذاك أنه مرّ على سالييري وكاتيرينا كافالييري في عربته واصطحبهما إلى الأوبرا، وحضر سالييري أوبرا موتسارت “الناي السحري” وتحدث موتسارت حينها بحماس:
“لقد استمع وشاهد بكل حماس، من الافتتاحية وحتى الكورال الأخير ولم يكن هناك فقرة دون أن يهتف فيها سالييري: براڤو، عظيم”.
كلمة الله المقدسة
في مسرحيته الشهيرة “أماديوس” (1979) – التي أخذ عنها ميلوش فورمان فيلم “أماديوس” الشهير (1984)، يرسم المؤلف بيتر شافر بطله أنطونيو سالييري (1750-1825) إنساناً يرتبط بعلاقة حميمة بالله منذ الطفولة، فيحس منذ صغره بقيمة الموسيقى التي يعتبرها كلمة الله المقدسة، ويمنعه والده عن دراسة الموسيقى، فيتضرع إلى الله كي يمنحه القدرة على الحديث بكلمته، فيموت الوالد ويدرك المراهق أن الله يسمعه ويستجيب لأمانيه فيزداد إيماناً ويبدو الأمر وكأن الله قد منحه الكلمة المقدسة وذلك السر الذي يفتح قلوب الناس لموسيقاه، فيتدرج في المناصب حتى يصل إلى فيينا ويعمل مؤلفاً موسيقياً في بلاط إمبراطور النمسا، وفي تلك الآونة كان الإيطاليين هم المسيطرون على المشهد الموسيقي في فيينا فتمضي حياة سالييري مستقرة سلسة مؤمنة حتى يظهر فولفجانج أماديوس موتسارت، ويفاجأ سالييري بالحقيقة المفجعة، وهي أن ما يمتلكه وظن أنه الكلمة المقدسة لم يكن كذلك، وإنما امتلك فقط القدرة على فهم تلك الكلمة المقدسة/السر/الموسيقى التي يتحدث بها الله إلى الناس من خلال الرسول الحقيقي موتسارت.
هنا تبدأ أزمة البطل ويحس بالخديعة، ويتحول إيمانه وحبّه لله إلى صراع مع تلك القوة العليا التي خدعته، ومنحت الموهبة لشخص آخر لا يماثله إخلاصاً وإيماناً. يبدأ سالييري في صراع الإله على أرض الصراع التي هي موتسارت. في واقع الأمر فإن شيئاً من ذلك لم يحدث، وإنما هي قصة من نسج خيال المؤلف بيتر شافر استناداً لبعض الوقائع التاريخية المعروفة.
كانت تلك هي الفكرة التي أردت مع أبو السعود تبنيها في المسرحية، واستخدمنا في المسرحية العمل الأخير الذي كتبه موتسارت وهو القداس الجنائزي الشهير “كوشيل 626” في سلم ري الصغير، والذي شعر موتسارت وهو يكتبه بأنه يكتب موسيقى جنازته.
إلا أن الأديب الروسي والكاتب المسرحي إدوارد رادزينسكي (مواليد 1936) لديه نظرية في غاية الأهمية بشأن وفاة موتسارت، أترك حكايتها للحلقة القادمة.