أحدث الحكايا

محمد منصور يحكي: مدينة العجائب الأمريكية تنتظر كارثة محققة!

كنا في ساحة كبيرة أمام أحد أشهر معالم مدينة “سياتل” الأمريكية، وقف العشرات ينظرون في رهبة لذلك البرج العملاق الذي يبلغ طوله نحو 187 مترًا فوق سطح البحر.

على شكل أسطوانة يرتفع “سبيس نيدل Space needle” ليشق سماء تلك المدينة الممتلئة بناطحات السحاب العملاقة. وفي أعلاه؛ قرص دائري زجاجي يوفر إطلاله ساحرة بانورامية على أفق مدينة سياتل، وجبل بيكر، وسلسلة جبال أوليمبيك، وخليج إليوت. كما يوفر أيضًا نظرة على منطقة يقع أسفلها -بشكل غير مرئي- فالق عملاق؛ ذلك الفالق الذي يجعل المدينة تقف على أعتاب كارثة مُحققة!

النظر إلى برج سبيس نيدل من الأسفل

المدينة الغافلة

داخل المصعد؛ الذي تبلغ سرعته نحو 17 كيلومترًا في الساعة؛ تقف مرشدة أمريكية تشرح للزوار -الذي بلغ عددهم منذ تشييد المعلم عام 1962 وحتى الآن نحو 67 مليون زائر- قدرة البرج على تحمل زلزال يبلغ قوته 9 درجات على مقياس ريختر، ورياح تبلغ سرعتها نحو 300 كيلومتر في الساعة الواحدة. تقول المرشدة إن تلك الظروف تجعل البرج يتحمل الكارثة التي حدثت في عام 1700. والتي قضت على الأخضر واليابس في تلك المدينة، الكارثة التي تقول عنها عالمة الجيولوجيا بهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية “إرين ويرث” إنها “ستتكرر لا محالة وستدمر المدينة الغافلة.. مدينة سياتل”.

 

السؤال عن الكارثة لا يبدأ بهل ستحدث.. ولكن يبدأ بمتى ستحدث؟

غابة مُدمرة

جذوع أشجار الأرز في المحيط

 

على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية تنتشر -داخل المحيط- جذوع أشجار الأرز الأحمر. تنكشف تلك الجذوع في حالات الجزر؛ يعرف الجميع أن تلك الأشجار لا يُمكن أن تنمو داخل المحيط حيث لا يُمكنها أن تحتمل درجات ملوحة المياه. كما أن أخشابها التي لا تزال تقف شامخة -غير مُتعفنة- داخل المياه تُشير إلى أنها نمت وترعرعت في تلك المنطقة منذ فترة قريبة.

كما تكشف أبحاث التربة أيضًا أن الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية -خاصة في ولاية سياتل- كان مرتعًا لغابة خضراء قضى عليها المحيط.

يُطلق سكان “سياتل” عليها اسم مدينة العجائب. حيث تحيط بها طبيعة خلابة تتألف من جبال وتلال ووديان وبحار. وفي قلبها ناطحات سحاب عملاقة تضم مجموعة من أضخم شركات التكنولوجيا في العالم. وتقع تلك المدينة في ولاية “واشنطن” ويسكنها 700 ألف نسمة.

لكن الطبيعة الخلابة تُخفى خطرًا عظيمًا، خطر يحمل موتًا مُحققًا ودمارًا هائلًا سيحيق بتلك المدينة الجذابة، “فسكانها يعيشون على قنبلة موقوتة.. قنبلة ستنفجر حتمًا في يومٍ قريب”، على حد قول أستاذ علوم الزلازل ومدير شبكة رصد الزلازل في المحيط الهادي هارولد توبن، والذي يؤكد أن الأمر لا يحمل احتمالات إيجابية، “فالسؤال عن الكارثة لا يبدأ بهل ستحدث.. ولكن يبدأ بمتى ستحدث”.

لينك:

في مقطع فيديو.. هارولد توبن يحذر من الخطر القادم

زلزال مدمر

تبدأ القصة قبل نحو 3500 عام؛ حين وقع الزلزال العملاق الأول في تلك المنطقة. لا يمتلك العلماء أيّ سجلات مكتوبة لذلك الزلزال الذي جاء بقوة تزيد عن 9 درجات على مقياس ريختر، إلا أن زلزالًا آخر أكسب الباحثين قدرة على فهم كل شيء.

ففي حوالي الساعة التاسعة مساءً بتوقيت المحيط الهادي، وفي يوم 26 يناير من عام 1700، وقع زلزال بقوة 9 ريختر في منطقة “كاسكاديا” على امتداد يبلغ نحو 1000 كيلومتر بين جزيرة فانكوفر ومنطقة كيب ميندوسينو بولاية كاليفورنيا. كان ذلك الزلزال مُدمرًا للغاية.

ففي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وجد العلماء الذين أجروا عملًا ميدانيًا دليلًا على أن الأراضي الساحلية الواقعة في منطقة الزلزال انخفضت فجأة وغمرتها موجات تسونامي عملاقة وأهالت عليها ملايين الأطنان من الطين.

في واشنطن؛ وعلى طول ساحل أوريغون؛ أدى التقدم السريع لمياه البحر إلى دفن نباتات في مستنقعات من المياه المالحة. نجت أشجار “الأرز الأحمر” لفترة طويلة؛ تلك الأشجار التي يُمكن أن نُشاهدها الآن على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية.

عالمة الجيولوجيا د. إيرين ويرث

تقول “ويرث” إن ذلك الزلزال “غير جيولوجيا المنطقة للأبد”؛ فالمحيط الهادي “تمدد مستحوذًا على آلاف الهكتارات من أراضي الغابات”، ودمر مئات الكيلومترات من الحزام الأخضر؛ ذلك الحزام الذي تُحيط بقاياه الآن بالمدينة.. مدينة سياتل.

 

 

آلة زمن

لكن، ما الذي يجعل العلماء على يقين من حدوث كارثة في المستقبل تُهدد الوجود البشري في تلك المنطقة؟

داخل وحل نهر “كوباليس” الواقع بالقرب من واشنطن، عثر الباحثون على مجموعة من الأدلة تؤكد أن تلك الكارثة ستتكرر. يُشبه الوحل آلة الزمن، يحتفظ بالكثير والكثير من المعلومات التي يُمكن أن تقود للحقائق. داخل ذلك النهر؛ وجد الباحثون جذورا لنباتات عاشت في تلك المنطقة قبل نحو 3500 عام، كما وجدوا سجلًا أحفوريًا لنباتات أخرى عاشت من تلك الفترة وحتى الآن. تكشف تلك الأحافير عن سر خطير.

فالمنطقة تعرضت بشكل دوري للكوارث، إذ تفصل كل كارثة عن الأخرى فترة زمنية تُقدر بنحو 500 عام فقط. “وقعت الكارثة الأخيرة في صورة زلزال وموجات تسونامي عام 1700 قبل 320 عامًا من الآن.. لم يتبق لنا الكثير من السنوات فنحن الآن في انتظار موجات المد العاتية والزلزال المُدمر”. يقول مايكل أنجوف” الجيولوجي العامل في الإدارة الأمريكية للمحيطات.

في عام 2022؛ وخلال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية للعلوم -والذي حضره كاتب هذا المقال- والمنعقد في مدينة سياتل الأمريكية، قدم “هارولد توبن” جلسة بعنوان “ساحل يلتوي”. في تلك الجلسة قدم عالم الجيولوجيا الشهير مجموعة من الدلائل على “المستقبل القاتم لمدينة سياتل”.

الاندساس والضغط

يقول “توين” إن قارة أمريكا الشمالية تتحرك -شأنها شأن القارات الأخرى- باستمرار. إلا أنه ولسوء الحظ؛ تصطدم أثناء حركتها للغرب بقاع المحيط الهادي. تضغط القارة على طبقة الأرض المكونة للمحيط، تلتقي الفوالق في أماكن يُطلق عليها منطقة الاندساس. في الوقت الحالي تلك المنطقة مستقرة، لكن؛ ومع زيادة الضغط ستحدث الكارثة لا محالة.

فالاندساس سيجعل طبقات الأرض تنزلق. وحين يحدث الانزلاق تنشأ الزلازل المتبوعة بموجات المد العملاقة. سيؤثر ذلك الزلزال على منطقة يبلغ طولها نحو 1000 كيلومتر هي طول فالق كاسكاديا الذي يُعد أطول فالق مستمر على سطح كوكب الأرض.

بناءً على الأدلة الجيولوجية والتاريخية، تُولّد منطقة الاندساس “كاسكاديا” زلازل كل 500 عام تقريبًا بقوة 9 ريختر أو أكثر، “كان آخرهم زلزال عام 1700 الذي ولّد موجات تسونامي هائلة وصلت إلى ساحل اليابان”.

لتقييم الآثار المحتملة لزلزال كاسكاديا الضخم؛ صمم باحثون مشروع M9 البحثي الذي امتد على مدار 6 سنوات وأجرى 50 محاكاة للزلازل المستقبلية، “كانت النتيجة كارثية” تقول “ويرث”.

فالق كسكاديا

تربة ناعمة

فمدينة سياتل مبنية فوق حوض رسوبي مُكون من تربة ناعمة نسبيًا، ستزيد لا محالة من قوة الصدمة الزلزالية. تؤكد “ويرث” التي تقول إن التداعيات الكارثية للزلزال المستقبلي الذي سيمتد لفترة لن تقل عن 100 ثانية سيكون “تدمير المدينة بشكل كامل”.

فعلى عكس أكواد البناء في اليابان وتشيلي؛ والتي تراعي وقوع تلك المناطق في حزام زلزالي يجعلها معرضة باستمرار للهزات الأرضية، لا يراعي كود البناء في “سياتل” موقع المدينة بجانب فالق كاسكاديا. هذا يعني أن نحو 50٪ من تلك المباني “ستنهار على رؤوس قاطنيها”.

من أعلى “سبيس نيدل” تبدو المدينة الحداثية وكأنها خالدة باقية أبد الدهر. يتسارع البناء في ضواحيها على التربة الهشة الناعمة. لكن، سيتغير الوضع لا محالة خلال السنوات القادمة. تقول “ويرث” التي تعيش في “سياتل” إن الأزمة “إننا لا نملك سبيلًا لتغيير المستقبل القاتم فالقادم محتوم، فقط علينا أن نستعد عبر تطوير أجهزة استشعار لها القدرة على إطلاق جرس الإنذار قبل وقوع الكارثة بفترة كافية للنزوح إلى أماكن بعيدة عن قلب الخطر. قلب سياتل العامر بناطحات السحاب الشاهقة”.

عن محمد منصور

محمد منصور.. صحفي علمي درس الهندسة الميكانيكية بجامعة حلوان المصرية. عمل في العديد من وسائل الإعلام العربية والعالمية. حصل على دورة في الصحافة العلمية من جامعة ييل الأمريكية، ودورة متخصصة في الصحافة البيولوجية في جامعة شيكاغو وزمالة مايوكلينيك لتغطية الصحافة الصحية ودورات في مجال صحافة الطاقة في جامعة ستانفورد. يركز في عمله على القضايا العلمية المرتبطة بالتنمية وقضايا التغير المناخي وقضايا الصحة وتغطية الأبحاث المستندة على الأدلة العلمية ومعالجة القضايا العلمية الملحة التي تؤثر على البشرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *