أحدث الحكايا

منير عتيبة يحكي: أم كلثوم.. الجدة الممتعة

لم أنتبه إلى قيمة أم كلثوم إلا وأنا في الصف الثاني الثانوي عندما وبخنا صديق بسببها.

لم تكن أم كلثوم تعني لي سوى الأفلام مملة الإيقاع التي يتحدث أبطالها بالقطارة ويتحركون (بالزمبلك)، والأغاني الطربية التي لا تميل إليها أذن تعشق أغاني عبد الحليم حافظ ومحمد فوزي سريعة الإيقاع خفيفة الدم.

لم تستطع أم كلثوم أن تنافس عبد الحليم صديقي، وفوزي كأخ أكبر، وفريد الأطرش كأخ أكبر من فوزي، وبالطبع يستحيل أن تنافس شادية أو سعاد حسني أو نادية لطفي كصديقة حميمة وحلم لفتى مراهق (فاتن حمامة؟ لا. كانت في خانة الأخت منذ البداية).

سخرية الشيخ كشك بصوته الزاعق الذي يكاد يخرق شريط الكاسيت تتداولها الألسنة (عجوز في السبعين تقول خدني في حنانك خدني!)، كانت أم كلثوم قابعة في خانة الجدة، وكان لدي ما يكفي من الجدات في بيت العائلة.

كوكب الشرق السيدة أم كلثوم

 “وجدت عمار الشريعي يغوص في بحر النغم ويعود إلينا بكنوز لا تخطر على بال عالم بالغناء والموسيقى.”

الطريق إلى أم كلثوم

في ذلك اليوم البعيد؛ دخل علينا صديقي خالد مسعود بصينية عليها أكواب الشاي، كنا نتحدث بأصوات عالية متداخلة، وصوت أم كلثوم ينطلق من الكاسيت دون أن ينتبه إليه أحد، وضع خالد الصينية على “ترابيزة” صغيرة، وأخذ يزعق فينا كمجنون “أم كلثوم، أم كلثوم”، وأغلق الكاسيت.

انتبهنا إليه، فواصل “عيب أم كلثوم تغني وأنتم مشغولين عنها! أم كلثوم لا تُسمع في الدوشة دي، دي عايزه نقعد لها مخصوص ونسمعها”. ضحكنا من ردة فعله وكلامه، وواصلنا حواراتنا الصاخبة، لكني لم أنس هذا الموقف أبدًا.

ثم وجدت عمار الشريعي يغوص في بحر النغم ويعود إلينا بكنوز لا تخطر على بال عالم بالغناء والموسيقى، فما بالك بجاهل مثلي، فهمت أن أم كلثوم لا تعيد وتزيد فيما تغنيه بلا معنى، إنها تقدم في كل إعادة تنويعة جديدة على أوتار الصوت، وإحساس جديد بالكلمات، وتقطيع جديد للجملة الغنائية، وفهم جديد للمعنى، وهذا لا يستطيعه سوى أم كلثوم.

من حفل للسيدة أم كلثوم

“أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كان الإنجليز يستعدون لمغادرة مصر لأن روميل وصل إلى العلمين، ولا سبيل لإيقافه، كان على رأس ما سيأخذونه معهم من ثروات؛ أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.”

ثروة مصرية

ثم عرفني بها أكثر الكاتب الصحفي محمود عوض بكتابه الممتع (أم كلثوم التي لا يعرفها أحد)، رأيت فنانة لا مثيل لها؛ إمكانيات، وقدرة، وفهمًا، وطموحًا، وإنسانة شديدة الصلابة والعزم والوعي بمستقبلها الذي تخطط له وتحقق ما تخططه، ومواطنة تؤمن ببلادها إيمانًا لا يتزعزع، وتقدم لها ما لا تستطيع جيوش أن تقدمه.

منحها الملك فاروق لقب (صاحبة العصمة) فهاجمته العائلة الملكية كلها، إذ كانت أول مرة تحصل عليه امرأة (من الشعب) فما بالك بمطربة؟! ومنحها جمال عبد الناصر جواز سفر دبلوماسي لأنها كانت السفير الأعظم لمصر في كل دول العالم، قدمت للمجهود الحربي بصوتها وأموالها وعائدات حفلاتها وبما بثته في نفوس العرب من المحيط إلى الخليج، ما لا يستطيع غيرها أن يقدمه، حتى إن إسرائيل حاولت اغتيالها فلم تفلح، فأطلقت بعض كلابها يبثون حول أم كلثوم الشائعات الدنيئة.

أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كان الإنجليز يستعدون لمغادرة مصر لأن روميل وصل إلى العلمين، ولا سبيل لإيقافه، كان على رأس ما سيأخذونه معهم من ثروات؛ أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.

لم أتعجب أن تكون أول شخصية عامة يزورها جمال عبد الناصر وبعض رفاقه بعد عودتهم من حرب فلسطين سنة 1948 هي أم كلثوم يشكرونها لأنها أهدتهم أغنية وهم على الجبهة.

وعندما طلبت ضعف ما تحصل عليه مغنية فرنسا الأشهر إديث بياف لتغني في باريس، استجاب لها صاحب المسرح بلا تردد، وأثناء الحفلة طلب أن يخفف المذيع جلال معوض مقدم الحفلة من النبرة السياسية في التقديم، فهددته أم كلثوم بإلغاء الحفلة مؤكدة له أنها حفلة سياسية وليست فنية فقط فعائدها سيذهب إلى المجهود الحربي، فقبل الرجل يدها حتى لا تلغيها ويخرب بيته، وواصل جلال معوض تقديمه الحماسي.

ولم يدهشني ما ذكره الكاتب محمد سلماوي في مذكراته، عندما قارن بين صوت أم كلثوم في الحفلات وصوتها على الأسطوانات، شعر أنه في الحفلات أجمل وأقوى، وسأل أحد المتخصصين فأخبره أن أجهزة الصوت وقتها أضعف من أن تلتقط كل طبقات صوت أم كلثوم.

الرئيس جمال عبد الناصر والسيدة أم كلثوم

تجليات الست في الوجدان

ارتبطتُ بأم كلثوم أكثر عندما أصبح لدي سيارة، أقودها في الساعة الحادية عشرة ليلًا، لأستمع إلى حفلتها المذاعة على قناة الأغاني، أصبح هذا طقسًا يجمعني بأم كلثوم، أقود السيارة بقوة العادة، وأغيب مع أم كلثوم في عوالم أخرى مستفيدًا فيها من المفاتيح التي منحني إياها عمار الشريعي. حتى أصبحت أم كلثوم تتغلغل في وجداني، فتخرج في بعض قصائدي، وقصصي، كتبت عنها قصة كاملة اسمها الفراشة، فانتازيا تستلهم غناء أم كلثوم لأغنية أنت عمري وتنتهي بهذا المقطع:

“بالتدريج شعروا بالموسيقى تخرج من جسدها هي، وتلف الخيمة، وترفع الجمهور سنتيمترات عن الأرض. تشي ملامحها بأنها تعيش حالة كاملة من العشق الحميمي، فصوته الذى استطاعت استحضاره يضاجع جسدها كله وليس فقط أذنيها، فلم تنبثق فراشات من بين ثدييها أو فخذيها، بل كانت هى نفسها تتحول إلى فراشة كبيرة بأجنحة من نور وألوان قزحية. فغمر شلال السعادة أرواحهم بعد أن اجتث منها جذور الحزن. ولم يحدث شيء آخر سوى أنها ببساطة؛ اختفت، لكنهم خرجوا وفى كل منهم بعضٌ منها”.

وفي قصيدة أقول:

أخشى الوقوف

والطيران

والسقوط

يداك فقط تستطيعان حملي

تدثراني بخطوط الكفين فأتدفأ

أفرد جناحي فوقهما وأطير في سماء الحلم

محلقا بك مع صوت “الست”

أم كلثوم ومستمعيها

أم كلثوم في الدراما

كان مسلسل أم كلثوم الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته إنعام محمد علي سنة 1999، وأدت دور أم كلثوم فيه الممثلة صابرين؛ أفضل ألف مرة من مسلسل العندليب 2006، الذي كتبه مدحت العدل وأخرجه جمال عبد الحميد وقام بدور العندليب فيه ممثل جديد لم يستمر في التمثيل هو فادي شامل الذي كانت ميزته الوحيدة شدة شبهه بعبد الحليم حافظ. لكن مسلسل أم كلثوم وقع في الخطأ الاستراتيجي نفسه الذي وقع فيه مسلسل العندليب ومعظم المسلسلات والأفلام والروايات التي تتناول شخصيات تاريخية فنية أو سياسية أو حربية أو غيرها، إذ تجعل من البطل ملاكًا لا يخطئ، والعالم كله يدور حوله فقط، حتى لتشعر أن الله لم يخلق هذا الكون إلا لأجل هذا أو هذه البطلة، ليصدمك أن الأسطورة أم كلثوم في مسلسلها، هي الشريرة في مسلسل عبد الحليم. وتفوت على المشاهد فرصة ذهبية لأن يرى هؤلاء الأشخاص كبشر يصيبون ويخطئون، يحبون ويكرهون، يتعرضون للمؤامرات، وينفذون هم مؤامرات ضد آخرين، ينجحون ويفشلون، بشر متميزون بموهبة كبيرة ما، لكنهم لديهم نواقص في أشياء أخرى.

مسلسل «أم كلثوم»

 

بالتأكيد؛ لن تستيطع أم كلثوم منافسة شادية وسعاد ونادية حتى الآن، لكنها ومنذ زمن بعيد؛ لم تعد جدة لا أحتاجها لأن لدي فائضًا منهن، بل تجاوزت ذلك لأن تصبح في وجداني وعقلي “كوكب الشرق” بحق، بما للكواكب من قدرة سماوية على المفارقة، والدوران في فضاء الخالق، وإرسال النور والدفء إلى البشر بما أتاهم الله من مواهب لم يمنحها لغيرهم.

كوكب الشرق السيدة أم كلثوم

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

2 تعليقات

  1. أم كلثوم.. وما أدارك ما أم كلثوم، تعودنا عليها تقليل ثم حبا
    تقليدا .. حين كنا نجتمع مع الآباء والحدود حول الراديو _المذياع_ من بعد صلاة المغرب يوميا؛ لنستمع إليها، وحين تذاع حفلتها الشهرية، كان اللب والسوداني والكلوب أبو رتينة رفقاء هذه السهرة.
    حبا.. بعد التعود حيث صار كل مقطع من أغانيها؛ ردا على كل سؤال، أو تلميحات واعترافا بالحب بين اثنين.
    كبرنا، ماتت أم كلثوم، لكن الشوق إليها ما زال ينبض بنض القلب. إذا سمعنا صوتها بأغنية مذاعة بالراديو أو على قناة ماسبيرو زمان بالتلفاز؛ ترقص الروح وتهفو إليها.
    هذه هي ثومة، كوكب الشرق في عقل وقلب من عاش زمنها الجميل.
    أتعجب الآن من حال أولادنا، الذين لا يقدرونها!، ربما بسبب أغاني المهرجانات وما شابهها.
    رحم الله الست.
    شكرا أ/ منير عتيبة على هذه التذكرة، رجعت بنا إلى زمن ولى، كان جميلا.
    تحياتي💐

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *