أحدث الحكايا

وليد الخشاب يحكي: أمي علمتني السينما (2).. سفنكس واحة الأفلام الصيفية

كنت أذهب مع أمي إلى سينما “سفنكس”.. في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كانت “سفنكس” سينما صيفية يذهب إليها سكان الدقي والعجوزة والمهندسين والصحفيين مشياً، أو بتاكسي يسير لخمس دقائق منطلقاً من أيٍ من أرجاء المنطقة. اليوم نذكر ميدان سفنكس بالقاهرة -أو الجيزة تحديداً- لأنه معلم من معالم شارع أحمد عرابي بالصحفيين، ويجاور مطلعاً أساسياً من مطالع كوبري 15 مايو في الجزء الرابط بين العجوزة والزمالك.

في نهاية الستينات وبداية السبعينات كانت سينما “سفنكس” على أطراف مدينة الطبقة الوسطى، تقبع في حضن فندق أطلس وتطل على ميدان خاوٍ على عروشه. وكانت بذلك مركز إشاعة الحيوية في ذلك الركن “الحدودي” الذي تلتقي عنده أحياء العجوزة والمهندسين والصحفيين. كانت المساكن قليلة حول السينما، فحين تطفأ الأنوار، ولا تضيء السماء إلا النجوم، تداعبنا نسائم الصيف الليلية ونجد أنفسنا نجمع بين متعة الجلوس في الهواء الطلق، ومتعة الفرجة على فيلم على شاشة كبيرة.

أما سينما سفنكس فكانت آمنة حتى بالنسبة لسيدات الطبقة الوسطى من الموظفات، حتى وإن ذهبن في غير رفقة رجل بالغ.

الصيف والسينما

بعد استقرار حكم دولة التحرر الوطني، وتمدد رقعة المدينة التي تشغلها طبقة الموظفين من العاملين بالحكومة وموظفي قطاعات الدولة الناشئة، لم يكن صيف سكان المنطقة ليكتمل، إلا بالذهاب ليلاً إلى سينما سفنكس. في طفولتي في الستينات، لم تكن ساعات البث التلفزيوني في القنوات الثلاث كافية لتسلية الناس. وسرعان ما قلصت الدولة البث وقصرته على القناتين الأولى والثانية لتخفيض النفقات، بعد أن كان البث في بداياته يتم على القنوات 5 و 7 و9.

ألغيت القناة 7 وصارت القناة 5 هي القناة الأولى والقناة 9 هي الثانية. لذلك، ففي الستينات ومطلع السبعينات، كانت السينما جزءًا مكملاً من برامج الترفيه الأسري، لاسيما في الصيف. وكانت سينمات الدرجة الثانية والسينمات الصيفية آمنة بحيث تسمح لأم وابنها الوحيد من أبناء الطبقة الوسطى أن يذهبا وحدهما دون “حماية” لحضور عرض يمتد إلى وقت متأخر من الليل، بعد أن يكون الفيلم قد استنفد دوره في عروض سينمات الدرجة الأولى، بوسط البلد مثلاً.

وكانت سينمات الدرجة الثانية طبقات. فكانت أمي تصطحبني إلى سينما سفنكس دائماً رغم أننا نضطر إلى ركوب تاكسي لنصل إليها، بينما كانت سينما “مرمر” بالدقي على بعد أمتار معدودة من بيتنا.

كان جمهور سينما “مرمر” أقرب لشباب الطبقة العاملة، وكانت العروض “صاخبة” بسبب حركة ونشاط، بل وضوضاء الجمهور. ومع ذلك دخلتها مرة أو اثنتين وحدي حين تجاوزت سن الثانية عشرة. أما سينما “سمارة” فلم تطأها قدمي ولو مرة واحدة، لأن والدتي لم تكن لتسمح لي بالذهاب وحدي، ولم تكن تشعر بأن جمهور “سمارة” أو “مرمر” يمكن أن يستوعب وجود سيدة بين صفوفه. أما سينما سفنكس فكانت آمنة حتى بالنسبة لسيدات الطبقة الوسطى من الموظفات، حتى وإن ذهبن في غير رفقة رجل بالغ.

الكاتب في طفولته

مفاجأة لا تمحى

في سن الأربع والخمس سنوات، في ليلة صيفية من ليالي الفترة بين حربي 1967 و1973، اصطحبتني أمي إلى سينما سفنكس. كانت تعرض فيلماً أمريكياً يحمل عنوانه إشارة إلى تمرد الشباب في موجة تمرد الأجيال التي ولدت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في الغرب. لعل عنوان الفيلم باللغة العربية كان شيئاً من قبيل “ثورة الشباب” أو “طيش الشباب”. ولابد أن أمي تصورت أن الفيلم أقرب للأفلام الشباب الصيفية التي كانت تنتجها هوليوود لاستهلاك الشباب في الصيف، التي تدور دائما على شاطئ ما، ويقابلها في مصر الأفلام الخفيفة التي كانت تقوم سعاد حسني ببطولتها -عادة مع حسن يوسف- مع بعض نجوم الكوميديا، وعادة ما تدور أحداثها على شاطئ الإسكندرية.

على غير عادتها، حين وجدت أمي أن الفيلم الأمريكي للكبار فقط، لم تتردد إلا قليلاً، ثم اشترت لكل منا تذكرة. وعلى غير ما صار إليه الحال بعد 1976، لم يمانع العاملون في السينما أن يدخل طفل دون العاشرة فيلماً للكبار فقط، ما دام في صحبة والدته.

د.وليد الخشاب في طفولته مع والدته السيدة درية الكرار

 

الضيق والرعب

لا أذكر من ذلك الفيلم إلا أنه أصابني بالضيق، بل والرعب. كان واحداً من تلك الأفلام المستقلة التي أنتجتها السينما الأمريكية في فترة اشتعال حركة معارضة حرب فيتنام، وكان يعرض للحياة اليومية لمجموعة من شباب الهيبيز البوهيميين، بملابسهم الفضفاضة المميزة والمهلهلة. كان الفيلم يركز على حياتهم في شكل جماعة أو كميونة، في حالة تحرر وشيوع في العلاقات العاطفية والجنسية. وكان أفراد الجماعة يقضون أمسياتهم ولياليهم في تعاطي المخدرات، ثم يهلوسون ويصير بعضهم عنيفاً فيضربون الفتيات من عضوات الجماعة أو يحاولون اغتصابهن. فكانت الشخصيات في الغالب في غير وعيها، وكان الفيلم مليئا بالصراخ والأصوات المزعجة أو التي تثير التوتر، وكان الكاميرا تقوض أبعاد الصورة ونسبها، فتبدو الأجساد ممطوطة والصورة خارج بؤرة العدسة. لم يكن هناك عري ولا دماء، ولكن إيحاء بالعنف البدني والجنسي، حتى إن أمي كانت تحجب الصورة عن عيني، ولما سألتني هل تريد أن نرحل؟ أسرعت بالموافقة.

متعة

لا أذكر إلا المتعة الكبرى التي كنت أشعر بها حين تصطحبني أمي إلى سينما سفنكس، والتي كانت تقترن بشرب المرطبات وأحيانا شراء البسبوسة. لكني لا أذكر من الأفلام التي شاهدتها في تلك السينما الصيفية إلا ذلك الفيلم الأمريكي عن الهيبيز الذي صدمني لدرجة أن بعض صوره عالقة في ذهني بعد مرور نصف قرن على تلك التجربة.

نصف قرن يفصلنا عن زمن لم يكن العاملون بالسينمات فيه يتصورون أنفسهم نوعاً من الشرطة، تمنع الناس من دخول أفلام الكبار فقط، إذا ما كانوا دون السادسة عشر. زمن بعيد عن تسعينات القرن العشرين، حين كانت بعض السينمات تنظم حفلات منتصف الليل وتعلن أن العروض ممنوعة على السيدات.

السيدة درية الكرار والدة الكاتب

عن د. وليد الخشاب

شاعر وناقد وأكاديمي مصري، يعمل حاليا أستاذا للدراسات العربية بجامعة يورك في كندا، ومديرا لجماعة الدراسات العربية الكندية، حيث أسس أول برنامج خاص بالدراسات العربية في الجامعات الكندية، خصص رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن السينما المصرية والأدب المقارن تحت عنوان "الميلودراما في مصر"، ونالها عام 2003 من جامعة مونتريال بكندا. وكتب عشرات المقالات النقدية والأكاديمية حول قضايا الهوية الثقافية والحداثة والأدب والسينما والتصوف في التراث والثقافة الدارجة، والكثير من الدراسات المترجمة من وإلى الفرنسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *