أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: عندما يتكلم المخرجون (2).. الثقة والشكوك والبحث عن السحر

بدأنا الحديث في الحكاية السابقة حول الحوارات بين كبار مخرجي العالم، والتي يُمكن من خلالها أن نفهم الكثير، ليس فقط حول أسلوب المخرج المتحدث ورؤيته للعالم وللسينما، ولكن عن هذا الفن بشكل عام، وعن الطيف المتنوع من الاتجاهات والمدارس التي ينتهجها كبار المبدعين في سعيهم الدائم لإتقان عملهم والتواصل مع مشاهديهم. وها نحن نستكمل حكايتنا.

في حكاية الأسبوع الماضي رأينا كيف تعلم المخرج الكندي دافيد كروننبيرج بتوالي الأعمال ألا يعتبر الممثلين خصومه، بل يُدرجهم داخل فريقه عبر تفهم اختلاف رؤيتهم للعمل، فأدواتهم هي الملابس والشعر والماكياج، حتى وإن بدت هذه الأشياء تافهة في خضم انشغال المخرج بمشكلات أكبر في صناعة الفيلم.

اقرأ أيضا: أحمد شوقي يحكي: عندما يتكلم المخرجون.. تساؤلات حول حوارات صناع الأفلام

 

مبدع آخر عُرف بقدرته الفريدة على استخراج الأداء الأفضل من الممثلين هو الأمريكي وودي آلان، الذي اقتبسنا في الأسبوع الماضي ما قاله عن قيمة الحفاظ على الدهشة والتحدي في صناعة الأفلام. عن توجيه الممثلين. قال آلان لمحاوره لوران تيرار:

“غالبًا ما يسألونني عن سر توجيه الممثلين، ويعتقدون دائمًا أنني أهزل عندما أجيب بأن كل ما عليك فعله هو أن تتعاقد مع ممثلين موهوبين ودعهم يفعلون عملهم، هذا حقيقي. يميل بعض المخرجين إلى الإفراط في توجيه ممثليهم، ويتهاون الممثلون في ذلك لأنهم، حسنًا، يحبون المبالغة في الأداء. إنهم يحبون دخول مناقشات لا حد لها عن هذه الجزئية. إنهم يحبون جعل مسألة إبداع شخصية ما عملية ذهنية في مجملها. وغالبًا ما يفسر ذلك اضطرابهم وفقدانهم لعفويتهم أو لموهبتهم الطبيعية. الآن أعتقد أنني أعرف من أين ينتج كل ذلك. فأعتقد أن الممثلين -وربما المخرج أيضًا- يشعرون بالذنب تجاه فعل شيء بسيط وطبيعي بالنسبة إليهم مثل هذا، ومن ثمّ يحاولون جعله أكثر تعقيدًا كي يبرروا تقاضي المال من أجله. وأعتقد أنني بعيد عن مثل هذا التفكير.

بطبيعة الحال، لو أن لدى الممثلين سؤالًا أو اثنين سأجيب عنهما، كما أنني أستطيع بالأحرى، التعاقد مع ممثلين وأدعهم يفعلون ما هم جديرون به. لن أجبرهم أبدًا على أي شيء، فأنا أثق تمامًا في غريزتهم التمثيلية، ولم أصب أبدًا بخيبة أمل.

أيضًا كما قلت أقوم بتصوير لقطات واسعة وطويلة، مشاهد بدون قطعات. يحب الممثلون هذه اللقطات لأنها تحمل جوهر التمثيل. في أغلب الأحيان يقومون في الأفلام الأخرى بتصوير لقطات متوسطة الحجم قصيرة الزمن، يقومون بتحريك رؤوسهم ويتفوهون بكلمتين، ثم يكون عليهم الانتظار أربع ساعات لتصوير نهاية هذا المشهد من زاوية أخري. فهم ما إن يسخنوا حتى يتوقفوا. إنه أمر محبط للغاية، وأعتقد أنه يسير عكس ما يجعل من مهنتهم شيئًا منعشًا. لذا في كل الأحوال، ما إن يظهر أحد أفلامي، يندهش الممثلون أنفسهم من روعة أدائهم ويعاملونني مثل بطل! لكن الحقيقة هي أنهم هم من أنجزوا كل العمل”.

وودي الان مع الممثلين

الثقة والاعتراف بالحيرة

كلمات وودي آلان تحمل اعترافا نادرا من النوع الذي يحتاج الفنان للكثير من الثقة بالنفس كي يعلنه، أن يقول إنه لا يصنع المعجزات لكنه فقط يختار الأشخاص الصحيحين ثم يتركهم يفعلون ما يتقنونه. الأمر قد يكون أسهل عند الحديث عن التمثيل -لا سيما وان آلان نفسه ممثل- لكن الاعتراف الأكبر يأتي من تيم بيرتون، والذي يكشف عن علاقة مماثلة يملكها مع أساس عمله الإخراجي، عن تقطيع المشاهد واختيار اللقطات والزوايا. يقول بيرتون:

“في أي موقع تصوير فيلم، والأكثر في موقع تصوير فيلم هوليوودي، تبدو المخاطر جسيمة والضغط مرتفعًا بما يدفعك لتخطيط أشياء عديدة قدر المستطاع مقدمًا. لكن كلما صنعت أفلامًا، كلما أدركت أن التلقائية هي بالفعل أفضل نهج، لأنك -وهذا بالتحديد أعظم درس تلقيته خلال تجربتي- لا تعرف أي شيء حتى تدخل بالفعل إلى موقع التصوير. يمكنك إجراء بروفات كما تريد، يمكنك جدولة لقطات السيناريو لو أن ذلك يبعث الطمأنينة في نفسك، لكن ما إن تصير في مكان التصوير الفعلي، فلا شيء من ذلك يعني الكثير. فجدولة السيناريو ستكون دائمًا أقل إثارة للاهتمام، لأن الديكوباج يقدم لك واقعًا ببُعدين، بينما موقع التصوير هو وسيط ذو ثلاثة أبعاد.

لذا فأنا أميل إلى عدم الاعتماد على جداول السيناريو كثيرًا. ونفس الشيء مع الممثلين. فهم لا يتصرفون أبدًا بنفس السلوك عندما يكونون في موقع التصوير الفعلي وهم بملابسهم مع الماكياج. لذا أحاول أن أطرد أية أفكار مسبقة عندما أصل إلى مكان التصوير، وأدع جزءًا كبيرًا لسحر اللحظة. وبالمناسبة، فكل فيلم له جانبه التجريبي الخاص به. بطبيعة الحال، الأستوديوهات لا تريد الاستماع لمثل هذا الكلام. لأنهم يرغبون في تصديق أنك تعرف بالضبط ما تنوي فعله. ولكن الحقيقة هي أن القرارات الأكثر أهمية الخاصة بالفيلم تتخذ في اللحظة الأخيرة، وأن المصادفة تلعب دورًا أساسيًا. إنها أفضل طريقة للعمل، وأود حتى الذهاب لأبعد من ذلك بكثير كي أقول إنها الطريقة الوحيدة لصنع فيلم مثير للاهتمام”.

المخرج تيم بيرتون

 

إنها الثقة مرة أخرى، والنجاح المتكرر والمُثبَت الذي يمنح صاحبه القدرة على الإفصاح عمّا يحدث فعلًا، لا عمّا يريد الناس سماعه أو يريد الفنان أن يقنع به نفسه. لا يعني هذا أن طريقة بيرتون هي الوحيدة، فهناك بالتأكيد مخرجون يخططون لقطاتهم بدقة قبل الذهاب إلى التصوير، لكن أفلام بيرتون، بما فيها من إتقان صنعة مشاهد معقدة، تؤكد أن الارتجال كثيرًا ما يُنتج مشاهدًا مدهشة.

وحدة الفنان الكبير

لكن مرور السنوات لا تُكسب صانع الأفلام الثقة في نفسه فحسب، وإنما تمنح الآخرين ثقة دائمة فيه، بصورة قد تكون أحيانًا مُضرّة، في ظل رغبة الفنان دومًا في دخول حوار، والجدل حول أفكاره ومشروعاته بما يدفعه لتحسينها وجعلها -إن أراد- أقرب للناس. الألم الذي عبّر عنه شخص قد يبدو من الغريب أن يصدر عنه هذا الرأي، وهو الفرنسي الكبير جان لوك جودار، حين قال لتيرار:

“هذه الأيام أشعر بالمزيد من المشاكل في العثور على أشخاص أتبادل معهم الأفكار. الناس الذين أعمل معهم يبدون غير مبالين، لا يبدو عليهم أنهم يسألون أنفسهم أسئلة كثيرة، وبالتأكيد هم لا يسألوني أية أسئلة. في أحد أفلامي الأخيرة مثلًا، تقول واحدة من الممثلات السطر التالي: الأداء يقتل النص. هذا كلام مارجريت دورا الذي لا أوافق عليه بالضرورة، وقد وضعته في الفيلم على هيئة سؤال أكثر من كونه صيغة تقريرية. ومع ذلك ما فاجأني بالفعل أن الممثلة الشابة التي نطقت بهذه الجملة لم تسألني أبدا ماذا تعني الجملة أو لماذا طلبت منها أن تقولها. إنني أواجه مزيدًا ومزيدًا من المشاكل في العثور على أناس مغرمين بالفعل بصنع الأفلام. والوحيد الذي مازلت أجري معه نوعًا من الحوار هو المنتج، لأن لديه اهتماما واضحا بالفيلم. ربما يكون اهتمامًا ماديًا لكنه أفضل من لا شيء. يشعرني معظم الآخرين أنني مثل فتاة القرية غير الشرعية، أنت تعرف تلك الفتاة التي يضاجعها كل الأولاد الشبان ثم يتباهون بذلك”.

ZURICH, SWITZERLAND – NOVEMBER 30: Director Jean-Luc Godard looks on before receiving the Swiss Federal Design Award Grand Prix held at X-Tra on November 30, 2010 in Zurich, Switzerland. Jean-Luc Godard, who will be celebrating his 80th birthday on Friday, claimed he will spend the money of the prize to pay his Swiss tax he never had to pay the 35 previous years he lived in Switzerland.  (Photo by The Image Gate/Getty Images)

 

قد لا يكون عدم الاكتراث سببًا لإحجام الممثلة الشابة عن التساؤل حول جملة الجوار، وإنما ببساطة الخوف، الشعور بأنها ستضع نفسها في موقف محرج إذا ما سألت عملاق بحجم جودار عمّا يعنيه، وأن عليها الاستجابة لما يريده دون نقاش لأنه يعرف جيدًا ما يفعله. ربما لهذا لم تكن أفلام جودار الأخيرة بنفس وهج أعمالها القديمة. المهم هو ما يكشفه عن رغبة صانع الأفلام في أن يسأله الآخرين، مرة لكي يشعر باشتراك الفريق بشكل جماعي في فيلمه، ومرة كي يستطرد في الشرح فيفهم هو نفسه ما يريده من الفيلم.

من أجل لحظة ساحرة

أما أحسن ختام لهذه السلسلة من الاقتباسات فيأتي من عملاق آخر، الأمريكي دافيد لينش، أحد أكثر صناع الأفلام خصوصية خلال النصف قرن الأخير، والذي تحدث عن اللحظات السحرية التي تُقابل الفنان خلال عمله، عندما استرجع ما دار خلال تصوير واحد من أشهر أفلامه “الرجل الفيل The Elephant Man” فقال:

“أعتقد أن أفضل حركة في كل أفلامي هي في مشهد من الرجل الفيل، عندما تكتشف الشخصية التي يؤديها أنطوني هوبكنز الرجل الفيل لأول مرة، فتتحرك الكاميرا قريبًا كي ترى رد الفعل على وجهه. أتحدث عن التكنيك، الحركة كانت رائعة جدًا، ولكن أيضًا ما إن تتوقف الكاميرا أمام وجه هوبكنز تمامًا، يبكي دموعًا. هذا لم يكن مخططًا له على الإطلاق، إنها فقط واحدة من الأشياء السحرية التي تحدث في مواقع التصوير الفيلم. ومع أنها كانت اللقطة الأولى، عندما شاهدت ذلك، قررت أنه من العبث حتى محاولة إعادتها مرة أخرى”.

يعيش المخرجون ويعملون حالمين ببلوغ لحظات كهذه، عندما تتضافر كل المواهب والجهود فتُسفر عن لحظة تحلق فوق الواقع، عن فيلم تفوق قيمته الكلية مجموع أجزاءه. من ينجحون في الإمساك بتلك اللحظات والاستثمار فيها هم من يصيرون أساتذة سينما كالذين قرأنا أقوالهم في أسبوعين متتاليين.

دافيد لينش

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *