عندما تُذكر كلمة “فرعون”، غالبًا ما ترتسم في مخيلتنا صورة ذهنية للمجد والبطش؛ للفخر والاستبداد؛ للقوة المطلقة. ولربما كان ذلك عائدًا إلى السرد التبجيلي المصاحب لسير هؤلاء الفراعنة من جانب راصدي تلك الحقبة من التاريخ، أو لمجسمات تلك الشخصيات التي قُدوها من صخر أسوان الصلد، كما تتجلى في مقابرهم وأبهاء قصورهم: وجوه لبشر جهم، تعلوها دائمًا سيماء الوقار، حتى وهم يداعبون أطفالهم، أو في خلواتهم مع زوجاتهم وقيانهم.
إلا أمازيس!
فهذا رجل من عامة الشعب، لا تجري في عروقه دماء الملوك والنبلاء. توَّجه الشعب ملكًا على عرش مصر، ليدشّن نوعًا جديدًا من الشرعية لم يألفه ذلك العصر: شرعية الشعب، لا شرعية الوراثة أو الانتساب إلى الآلهة. ملك شهدت مصر على عهده “صحوة الموت”، بل إن المؤرخين يرون في عصره بعثًا لما شهدته البلاد على يد تحتمس الثالث، والذي سبق ذلك العصر بثلاثة قرون.
كانت مصر في ذلك الحين (القرن السادس قبل الميلاد) تحت حكم الملك ابريس الثاني، وكانت خاضعة للنفوذ الأجنبي. فقد اعتمد الملك على الإغريق ووثق بهم، وقرّبهم إليه دون أهل البلاد. وبلغ نفوذهم، في عهد والده، حدَّ إنشاء المستعمرات الزراعية والمؤسسات التجارية، بل إن أحدهم تمكن من إقامة مدينة كاملة على الشاطئ الليبي عُرفت باسم “سيريني” (برقة). وظل الليبيون يتحملون هذا الواقع الكريه على مدى ستين عامًا. لكن ما زاد الطين بلة أن تولي ابريس كان بمثابة دفعة جديدة للهجرة الإغريقية إلى ليبيا واحتلال المزيد من الأرض وتشييد المزيد من المستعمرات.
اشتد سخط الوطنيين في ليبيا وفاض كيلهم، فتوجهوا إلى مصر يلتمسون من ابريس تخليصهم من ربقة هذا الاستعمار الصريح، ويطالبونه بإرسال جيش لطرد الإغريق من البلاد. واستجاب الملك لضغط الليبيين وقرر إرسال جيش لإبعاد الإغريق عن ليبيا، لكنه وقع في مأزق غريب. فالجيش القوي المتاح لديه قوامه الإغريق، ويستحيل أن يحاربوا أبناء جلدتهم. أما الجيش المصري فقد أضعفه الإهمال والنفوذ الأجنبي. ولم يكن أمام ابريس سوى إرسال هذا الجيش المصري الهزيل. وعلى الأرض الليبية تلقى الجيش المصري هزيمة نكراء على يد المرتزقة الإغريق الذين أبادوه عن آخره.
ونستكمل باقي الحكاية الأسبوع القادم ..
شهرزاد