اتصل بي صديق يُدَرّس السينما في أحد المعاهد الخاصة، ليشكو من القطيعة الواضحة بين طُلّابه وتاريخ الفن السابع. أيدت قوله مشيرًا إلى خبرتي المحدودة مع التدريس، والتي كنت أندهش خلالها من أن هناك من يرغب في أن يصنع الأفلام لكنه لم يشاهد أعمالًا أساسية مثل كلاسيكيات ألفريد هيتشكوك، ليرد صديقي مستنكرًا: أي هيتشكوك تتحدث عنه؟ طُلّابي لم يسمعوا عن “نادي القتال Fight Club” لدافيد فينشر!
يضرب تعليق الصديق على أوتار حساسة؛ ففي المهرجانات السينمائية العربية تُقام عروض الأفلام الكلاسيكية على استحياء، غالبًا بشكل بروتوكولي تماشيًا مع تكريم مخرج أو ممثل ما فيُعرض واحد أو أكثر من أفلامه في قاعات شبه خاوية.
أما صناع الرأي العام السينمائي فلا يملكون رفاهية الحديث عن الأعمال القديمة. أحد أشهر صناع المحتوى السينمائي على يوتيوب قال لي صراحةً إنه يتمنى تقديم حلقات عن الكلاسيكيات، لكن التجربة أثبتت كونها الطريق الأمثل لأن تخسر قناته متابعيها، وأنه لو أطلق فيديو دون محتوى واضح ستكون فرصه في النجاح أكبر بكثير من أن يحمل العنوان إشارة لفيلم بالأبيض والأسود.
وضع مؤلم
قد تكون كل تلك المفارقات تجليات متوازية لوضع مؤلم صرنا معتادين عليه مؤخرًا، وهو مقابلة مخرجين ومؤلفين شباب، كثير منهم موهوب بالفعل، لكنهم يتصرفون وكأن السينما بدأت في يوم مولدهم، أو للدقة في اليوم الذي قرروا فيه مشاهدة أول فيلم، وكأنه ليس فنًا تراكميًا، لم يكن ليقطع أي خطوة للأمام مالم يستفد من الخطوات الأسبق، التقنية والشكلية والموضوعية. لكن إذا تجاوزنا تلك الرغبة البشرية الدائمة في التعالي على الأجيال الأصغر، وحاولنا النظر للأمر من الزاوية العكسية، سنجد أنفسنا أمام معضلة فنية تستحق التأمل.
واجب مدرسي ضخم
سمح لي القدر أن أقترب إنسانيًا من عدد من نقاد جيل الرواد العرب، ولطالما قلت للراحلين سمير فريد وعلي أبو شادي أنهما ينتميان إلى جيلٍ محظوظ؛ فإذا تفتح وعيك على السينما في مطلع الستينات، فبإمكانك أن تعيش تطور هذا الفن يومًا بيوم، أن تتابع جانبًا مهمًا من مسيرة أكيرا كوروساوا وإنجمار بيرجمان، وتواكب أعمال أندري تاركوفسكي ويوسف شاهين، وتشهد مولد جيل جديد من صناع أفلام شبّان، أسماؤهم هي مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرج وفرانسيس فورد كوبولا!
لم يكن على فريد وأبو شادي وجيلهما إلا مشاهدة حفنة من الكلاسيكيات التي سبقتهم: أعمال سيرجي إيزنشتاين والتعبيرية الألمانية وأساتذة هوليوود الأوائل جريفث وتشابلن وكابرا، كي يمتلكوا نظرة بانوراميا مُلمة بتاريخ هذا الفن الحديث نسبيًا بالتوازي مع متابعة جديده أولًا بأول.
أما بالنسبة لجيلي ممن بدأت علاقتهم بالسينما في مطلع التسعينيات، فقد تزايد حجم الواجب المدرسي على كواهلنا. وُلدنا في عالم كوينتن تارانتينو ودافيد فينشر، فكان علينا أن نكتشف بأثر رجعي السينما الصامتة والواقعية الإيطالية والموجة الفرنسية وكل الاتجاهات السينمائية الأخرى.
اليوم يبدو الأمر أكثر تعقيدًا بالنسبة لشاب يبدأ علاقته بفن السينما، ليكتشف أن أمامه قرنًا كاملًا من الأفلام والمدارس والمخرجين ليدرسهم أو حتى ليطّلع بشكل مبسط على أعمالهم، ناهيك عن مواكبة الجديد الذي لا يتوقف من طوفان الأفلام والمسلسلات والأعمال الإبداعية المختلفة التي تُطلق للفضاء العام كل يوم.
الأمر يشبه شعورك إذا ما شاهدت حلقة من مسلسل ووقعت في حبها، ثم اكتشفت أنها ضمن الموسم العاشر لعمل مُستمر تُعرض حلقاته يوميًا. هل تتوقف عن استكمال ما أعجبك وتبدأ المشاهدة من البداية مهدرًا فرصة متعة متابعة الجديد ومناقشته مع أقرانك؟ أم تستمر في المشاهدة على اعتبار أنه طالما تمكنت من فهم القصة والاستمتاع بالحلقة، فلا داع لإضاعة الوقت في مشاهدة الماضي؟ وهل تُغني معرفتنا المفترضة باللحظة الراهنة عن فهم تكوين الشخصيات وتطورها وكيف آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن؟
معادلة للتوازن
إجابتي الشخصية تنتصر بطبيعة الحال لضرورة الإلمام بالتراث، حتى وإن تم ذلك بصورة عامة عبر مشاهدة ودراسة الأعمال الرئيسة. لكنّي في الوقت نفسه أتفهم صعوبة المهمة على البعض، لاسيما من يجدون أنفسهم داخل قطار السينما المندفع بلا توقف، يحاولون ملاحقة مئات الأفلام التي تُعرض في القاعات وتطرح على منصات العرض وتختارها مهرجانات كان وفينيسيا وبرلين وصندانس. لو كنت تشعر بأن عليك أن تشاهد مئة فيلم جديد من إنتاج العام الحالي حتى تكون ملمًا باللحظة الراهنة، فمن أين تأتي بالوقت والمزاج الكافيين لمشاهدة أفلام من ستينات القرن الماضي؟
قناعتي، وبعد قرابة عقدين من العمل في النقد والتجوّل بين المهرجانات، أنه من المستحيل عمليًا أن ينتج العالم في سنة واحدة مئة فيلم تستحق المشاهدة، وإنه إن لم يكن عملك يرتبط بمتابعة كل هذه الأفلام الجديدة، كأن تعمل في برمجة مهرجان سينمائي مثلًا، فإن الاكتفاء بمشاهدة أهم 25 فيلمًا أحدثت أثرًا ونالت صدى قد يكون كافيًا ويتيح فرصة لاكتشاف المزيد من روائع التراث.
شهادة ضمان السنين
أعلم أن الأفلام القديمة لا تملك نفس الجاذبية، لا تمنح من يشاهدها شعورًا بالأفضلية وسط الأقران كمن يتابع كل الجديد، ولا يحيط بها نقاش ضخم على الإنترنت يمكن المشاركة فيه. لكنها في المقابل تحمل ما هو أقيم: شهادة ضمان السنين، هذه أعمال نجحت في اختبار الزمن، تجاوزت حدود عصرها وجمهورها المتوقع واحتفظت بقدرتها على التأثير -ولو جزئيًا- فيمن يشاهدها اليوم.
ربما لو تعممت تلك القناعة، لو وجد النقاش حول الروائع مساحة أكبر في المهرجانات وحلقات البودكاست ومقاطع اليوتيوب، لو أدركنا أن أجيالا سبقتنا كانت بحاجة لأن تسافر بلادا بعيدة لمشاهدة فيلم كلاسيكي قرأوا عنه، بينما نملك نحن رفاهية مشاهدته في منازلنا بأعلى جودة وأقل تكلفة بضغطة زر، ربما وقتها فقط يمكن التأكد من أن طلاب السينما ومخرجي المستقبل يعرفون فيلم “نادي القتال”.