انتهت الحكاية الأولى بقراءة للفن التشكيلي ودوره في دفع مفهوم الحداثة إلى واجهة صورة التحديث في العالم، وهنا نروي في الحكاية الثانية حكايات جذور الحداثة كما جرت في نهاية القرن التاسع عشر، وكان الأمر كله يدور حول مدى زيف الجديد وأصالة القديم، وهنا سألتني شهرزاد: هل هذا صحيح؟، وكان لابد أن أجيب.
عمق حداثي
يحمل مصطلح الحداثة الكثير من التطلعات الإنسانية عبر التاريخ، فكل عصر وُجد فيه الإنسان وُوجدت فيه تطلعاته نحو عصر أفضل يمكن أن نطلق عليه عصر الحداثة، انتقال الإنسان من الرعي للزراعة حداثة ومن الزراعة للصناعة حداثة، ومن الصناعة للمعلومات والمعرفة حداثة، هنا تقف الثقافة والفن موقف آخر يحاول أن يعمل على التوازن بين عصر انتقال المجتمع اقتصاديا وسياسيا إلى انتقال ثقافي وفني يرأب الصدع في القيم الإنسانية، هذا الصراع بين الثقافة والاقتصاد والتاريخ، هو ماينتج العمق الحداثي، بهذا التفسير يمكن القول بأن الحداثة وُلدت مع الإنسان وتاريخه الذي يكتبه، البعض يعيدها لسنوات العصر الصناعي والبعض يعيدها لمئات السنوات التي مضت، وأيا كان الموقف يمكننا ولأغراض هذه السلسلة من الحكايات التعرف على جذور الحداثة القريبة.
إن جذور الحداثة تقع في أعماق التاريخ وليس في منتصف القرن التاسع عشر، فمؤرخو العصر الحديث يبدأون عادة من القرن السادس عشر، وبدء ما يسمى الفترة الحديثة المبكرة وما اصطلح على تسميته (بعصر النهضة)، والتي تمتد للقرن الثامن عشر. تظهر الأسس الفكرية للحداثة في عصر النهضة وذلك من خلال دراسة الفن، والشعر، والفلسفة والعلوم لدى الإغريق والرومان حيث أعاد الإنسانيون في اليونان وروما الحياة للإنسان كرمز بديل للإله، هذا الإنسان الذي أصبح مقياساً لكل شئ، وتم تهيئته من خلال بث أفكار المواطنة والوعي المدني التي تم زرعها فيه إبان فترة التعليم. كما عززت تلك الفترة في التاريخ الإنساني من رؤى “اليوتوبيا” أو المدينة الفاضلة، كناية عن الرغبة في الوصول للمجتمع الأمثل، بداية من السير توماس مور[1] في رائعته”اليوتوبيا” والتي كتبها عام 1516، والتي وصف فيها مجتمعا مثاليا يحيا على جزيرة، هذه المثالية تبدو واضحة في نظامه السياسي والقانوني والاجتماعي.
أيضا وبأثر رجعي يمكننا في عصر النهضة ملاحظة التعبير الإنساني لهذه الثقة الحداثية في شكل البشر وأقدارهم الخاصة ومستقبل العالم. كما عرض لإيمان الإنسان بقدرته على التعلم وفهم الطبيعة والقوى الطبيعية، وحتى فهم طبيعة الكون.
كل جديد مزيف!
إن تفكير الحداثي Modernist والذي امتزج بعصر النهضة بدأ يأخذ شكلا كنموذج أكبر للفكر في القرن الثامن عشر. وربما يجب أن نشير إلى مايعرف بـ”معارك القدماء مع الحداثة”، حيث بدأ النزاع الأدبي والفني المسيطر على الحياة الفكرية الأوروبية في نهاية القرن السابع عشر، وبداية القرن الثامن عشر.
الفكرة الأساسية في نقد الحداثة منذ القرن الثامن عشر كانت تتلخص في اتهام كل جديد بأنه مزيف، وأن كل قديم هو الأصل الذي يجب السير على منواله، هذا المفهوم كان يقف دائما سدا منيعا نحو التطور، كان صلب الموضوع هو قضية ما إذا كان التحديث (مثال الكُتاب والفنانين المعاصرين) أخلاقيا وفنيا متفوق عن القدماء (مثال الكتاب والفنانين القدماء الإغريق والرومان). بمعنى آخر كيف يمكن لكل جديد مزيف أن يحل محل الأصلي القديم، (وهي فكرة إنسانية تراثية بامتياز كامل)، كانت ضربات قوية لمفهوم الحداثة في ذاته.
وقد عرض لهذه الفكرة للمرة الأولى السيد “شارل برو”[2] والذي دعم مفهوم التحديث في فرنسا عام 1687، وقد امتدت الفكرة بعد ذلك إلى إنجلترا حيث هجاها جوناثان سويفت[3] في كتابه “معركة الكتب” أو The Battle of the Books. كما تم هجاؤها أيضا في مطبوع بعنوان “معركة الصور” The Battle of the Pictures لمؤلفه وليم هوغارث والتي تظهر أعمالا أصلية تعود لعصر النهضة والباروك تهاجم الأعمال الخاصة بهوغارث المساوية لها، ولكن بشكل أكثر عصرية، وعلى سبيل المثال فإن اللوحة الأصلية التي بعنوان تائب مريم المجدلية Penitent Mary Magdalen تهاجم المشهد الثالث في سلسلة أعمال هوغارث المعروفة بإسم “تقدم هارلوت”، بينما تهاجم اللوحة القديمة “عيد الإله” المشهد الثالث من عمل هوجارث “تقدم الخليع” وهكذا.
معركة الصور
نقش ويليام هوغارث عمله معركة الصور “The Battle of the Pictures” في الأصل لتمثل بيانًا لهوغارث حول طبيعة الفن والقيم الجمالية. كما أنه كان يقدم تعليقًا لاذعًا على دور المزادات التجارية، والمؤسسات التي أصبحت أخلاقياتها مشبوهة اليوم كما كانت في القرن الثامن عشر. حيث تظهر دار المزاد على اليسار بينما يظهر صدع بشكل رمزي على جداره الأمامي وعلى جانب الباب الرئيسي توجد لوحة مؤطرة بشكل مبالغ فيه بينما تقف أمام دار المزاد صفوف طويلة من الصور. بينما الصور الأولى منها أصلية، ولكن جميع النسخ الأخرى هي نسخ عن الأصل أو نسخ مزيفة في حين يظهر استوديو بينما ويليام هوغارث على اليمين. تظهر على الحامل لوحة “الزواج على نمط الحياة”. كما تظهر لوحات أخرى من مواقيت اليوم الأربعة أو (الصباح) ولوحة تقدم هارلوت ولوحة تقدم الخليع ومجموعة من اللوحات الرئيسية القديمة، مثل تمثيلات القديس فرنسيس وماري المجدلية، تقود هجومًا، وبعضها يطعن في لوحات هوغارث التي فاق عددها عدد أي صور أخرى مقلدة. وفي “معركة الصور” يخوض هوغارث معركة خاسرة ضد الفن السيئ. قام وليم هوغارث بتصميم وحفر هذا النقش الأصلي وأصدره وليم هيث في عام 1822.
وهكذا عولج الأمر بكثير من الفكاهة والسخرية من قبل كل من سويفت وهوجارث، لكن معركة القدماء مع الفنانين الحداثيين استرعت اهتماما أعمق، مما حرض السلطات المؤسسية التي كانت مدعومة بحزم من التقاليد الراسخة، والعرف، والقانون، والنَسب ضد تقدمية الأفراد فتظل القيود التي تفرضها السلطة على حياتهم وعلى المجتمع باقية للأبد. أظهر هذا الصراع انشطارا مهما والذي ظل أساسيا لقضية الحداثي: الفصل بين القوى المحافظة والتي تفضل دعم القدماء، والقوى الأكثر تقدمية التي تُقف بجوار كل ما هو حديث.
في القرن الثامن عشر، كان من نتائج التنوير الذي حدث نضوج فكر “الاعتقاد الإنساني” كسبب وكمبدأ توجيه أساسي في شؤون البشر. ومن خلال هذا السبب قام العقل بتطبيق أفكار التنوير، ولتنوير العقل كان كل شيء جديدا، وتم فتح عالم مثير على مصراعيه.
اقرأ أيضا: د. زين عبد الهادي يحكي حكاية الحداثة (1): في معنى الحداثة
دور التنوير
كان التنوير حركة فكرية، وكان الملاصق لها على التوازي هو ما يعرف بالثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر 16 و17 حين قدم رجال مثل يوهان كبلر، وجاليليو جاليلي وإسحق نيوتن أعمالا سحبت الفكر الإنساني من دياجير الظلام إلى هضاب النور من خلال إعمال العقل في دراسة طبيعة العالم مما ساعد على تقديم اكتشافات علمية مذهلة والتي كشفت بدورها عن حقائق علمية متعددة.
غالبا ما حلقت هذه الحقائق الجديدة في وجه المعتقدات التقليدية المتوارثة، خاصة تلك المعتقدات التي بنتها الكنيسة. وعلى سبيل المثال، وعلى عكس ما أصرت عليه الكنيسة لقرون، كحقيقة دوران الأرض حول الشمس. الفكرة هنا أن الحقيقة يمكن أن تكتشف من خلال إعمال العقل وبناء على دراسات منطقية للغاية.
إن مفكر القرن الثامن عشر المنفتح العقل آمن بأن كل شيء يمكن أن يخضع لقانون التفكير العلمي: العادات والتقاليد والأخلاقيات وحتى الفن. وأكثر من هذا، فقد شعر بأن الحقيقة التي يتم الكشف عنها يمكن تطبيقها قي السياسة والبيئة الاجتماعية لتصحيح المشاكل وتحسين الظروف السياسية والاجتماعية للنوع الانساني. هذا الشكل من التفكير تنامى إلى أن أصبح بالإمكان انشاء مجتمع جديد أفضل.
إن الحقيقة العقلانية التي كشفها التفكير العلمي يمكن أن تحرر الناس من هزات المؤسسات الفاسدة مثل (المؤسسة الدينية) كالكنيسة والمعبد والذين يقومون بإعادة توجيه سيئ للأذهان وتعزيز الأفكار القديمة والمحافظة على إخضاع الناس بالجهل والخرافة. لقد أصبح مفهوم الحرية مركزيا لرؤية المجتمع الجديد. ومن خلال الحقيقة والحرية، يمكن أن يبنى العالم بشكل أفضل.
تحقيق الذات العالمية
لقد صور التفكير التنويري الجنس البشري على أنه يقاتل في سبيل تحقيق الذات العالمية الفكرية والأخلاقية. لقد كان من المعتقد أن التفكير العقلي يمكن أن يسمح بالوصول للحقيقة وأن معرفة الحقيقة سوف تحسن من أداء ووجود الجنس البشري. هذه الرؤية التي بدأت تأخذ ملامحها في القرن الثامن عشر من أن العالم الجديد هو عالم أفضل. في عام 1762 كتب جان جاك روسو كتابه “مسألة في طبيعة العقد الاجتماعي” وقد قال بأن النظام الاجتماعي الجديد يجب أن يبنى على مفهوم المساواة من الناحيتين الأخلاقية والقانونية وأن هؤلاء البشر غير المتساويين في القوة أو الذكاء يتمتعون في ذات الوقت بالمساواة مع أقرانهم بقوة الحقوق القانونية والاجتماعية. وباجتماع البشر تحت مظلة المجتمع المدني بقوة العقد الاجتماعي فإنهم يحمون أنفسهم ويحافظون على حرياتهم. هذا الاتجاه الأساسي كان رمزا بالغ الأهمية للحداثة.
محاولات وثورات
مثل هذا الإعلان عن دعم الحرية والمساواة لم يكن مجرد كلام في كتاب. ففي القرن الثامن عشر حدثت محاولتان أساسيتان لوضع هذه الأفكار موضع التطبيق. بالطبع فإن مثل هذه الأفكار لم تكن شائعة بسبب عوامل المحافظة والتقاليد المتوارثة في المجتمعات، وقد حدثت مقاومات بأشكال متعددة ضد هذه الأفكار وصلت لحد الثورة الدموية.
بدأت التجربة الأولى الكبيرة في بناء مجتمع جديد وسام مع ظهور وثيقة إعلان الاستقلال في الولايات المتحدة عام 1776. لقد كان نوعا من التفكير التنويري الذي تبدأ كلماته بمثل هذه العبارة “إننا نقدم هذه الحقائق البديهية” وتتبعها العبارة الرمزية التي تقول “إن كل البشر ولدوا متساوين”. لقد كانت الوثيقة تعكس نزوعا من القلق الإنساني على حقوق الإنسان فتؤكد على حق الإنسان في السعادة في حياته وهي تعكس أيضا نقلة هائلة من مركزية الإله في العقيدة المسيحية والتركيز على مابعد الحياة الدنيا إلى التركيز على الإنسان الفرد ونوعية وجودة الحياة المطلوبة له. من العناصر الأساسية التي عكستها أيضا الحرية كرمز أنها أعلنت في الوثيقة كواحدة من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف.
في عام 1789، حدثت ثورة دموية في فرنسا حاولت بناء مجتمع جديد وكان هدفها أن تزيح البنية القمعية الحكومية التي تتمحور حول الملكية المطلقة، والأرستقراطية العاتية مع الامتيازات الاقطاعية، بالإضافة إلى رجال الدين الكاثوليك الأقوياء، وأن يحل محل كل هؤلاء مبادئ التنوير الجديدة المكونة من المواطنة والقومية، والحقوق غير القابلة للتصرف؛ هنا احتشد الثوار مطلقين صرخة المساواة والإخاء، والحرية.
على أية حال فشلت الثورة الفرنسية في بناء مجتمع جديد تقدمي في فرنسا. فقد حدثت العديد من التغييرات في النظام بلغت ذروتها في الدكتاتورية العسكرية لنابليون، وإنشاء الإمبراطورية النابليونية، وأخيرا استعادة النظام الملكي في عام 1814.
تواصل النشاط الثوري حتى 1830 ومرة أخرى عام 1848. ويجب أن نذكر هنا المحاولة الثالثة لبناء مجتمع جديد مبني على أفكار تنويرية عظيمة والتي أخذت مكانتها في بداية القرن العشرين وهي الثورة الروسية والتي بدأت عام 1915، لكن هذه الثورة التي تعد الأكثر مثالية ويوتوبية بين ثورات العالم الحديث أيضا فشلت في تحقيق أهدافها.
إن جذور الحداثة موجودة ومتحققة في المثل العليا لعصر التنوير، هناك سنجد دورا جديدا للفن والفنان. ببساطة، يمكننا القول بأن الهدف الأسمى للحداثة، والفن الحديث، هو بناء مجتمع أفضل.