لم يعرف جيلنا الكثير عن علي مبارك سوى عن طريق مدرسة المشاغبين، فللمفارقة الكبيرة كانت هذه المسرحية التي تسخر من أحوال التعليم في مصر في السبعينات هي السبب في معرفة المشاهدين باسم علي مبارك الذي ورد في جملة عابرة ساخرة أطلقها عادل إمام حينما ترحم على تعليم زمان “فين تعليم زمان ورجالة زمان؟.. رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وزكي جمعة.. مين زكي جمعة ده؟”.
من هو علي مبارك؟
والحقيقة أن علي مبارك كان واحدا من أهم رجال عصر النهضة المصرية الحديثة، وهو من آمن بأهمية التعليم وجودته وعمل على إنشاء منظومته، وهو الأمر الذي كان سببا في تخليد اسمه في كتب التاريخ المصرية، غير أن الرجل قد عمل في مجالات ومناصب متعددة نادرا ما يستطيع أحد الجمع بينها في وقت واحد.
بدأت حكاية علي مبارك بمولده في عام 1823 في قرية برمبال في محافظة الدقهلية، لأسرة ريفية فقيرة، حرصت على أن يلتحق ابنها بكتاب القرية فأظهر نبوغا بين أقرانه، وكان هذا في بدايات الثلاثينات من القرن التاسع عشر حين بدأ محمد علي في إنشاء المدارس المدنية والعسكرية التي تخدم طموحه في بناء جيش مصري نظامي يعتمد على المصريين، وبدأ في جمع الطلاب النابهين من قراهم على غير رغبة أهلهم الذين رفضوا تغرب أولادهم عنهم، لكن علي مبارك كان أحد هؤلاء الذين أُخذوا قسرا ليتم التحاقه بالمدرسة الحربية بقصر العيني، وعلى الرغم من معاناته الكبيرة في تلك المدرسة فقد أظهر نفس النبوغ الذي ظهر في كتاب القرية.
وبعد عام من التحاقه بمدرسة قصر العيني تم تحويلها إلى مدرسة للطب، وتم نقله وزملائه إلى مدرسة أبي زعبل، التي درس فيها لمدة ثلاث سنوات، وقد لمس علي مبارك في مدرسة أبو زعبل اختلافا شديدا عن مدرسة قصر العيني فقد كانت أكثر تطورًا وأقل قسوة.
وفي أثناء دراسته في مدرسة أبو زعبل تم اختيار مجموعة من الطلاب المتفوقين لكي يقوموا باستكمال دراستهم في مدرسة المهندس خانة، وكان ذلك في عام 1839، تلك المدرسة التي قضى فيها خمس سنوات كاملة، ثم تخرج فيها أول دفعته، وهو السبب الذي أسهم في اختياره عضوا في إحدى البعثات التعليمية الكبرى التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا.
كانت هذه البعثة تضم أربعة من أبناء محمد علي وأحفاده، وكان منهم الأمير إسماعيل (الذي سيصبح بعد سنوات خديو مصر)، وبعد العودة تم تعيينه مدرسا في مدرسة المدفعية لكنه عهد إليه في عهد الخديو عباس بصيانة القناطر الخيرية، وهو المشروع الذي انطلق منه ليشغل عددا من المناصب العليا في الدولة المصرية، منها نظارة المعارف والأوقاف والأشغال والنقل والسكك الحديدية، وأشرف على احتفالات افتتاح قناة السويس، وأبلى فيها كلها بلاء حسنا.
وعلى الرغم من الدسائس التي تعرض لها وعزل بسببها من منصبه وتم إرساله في بعثة حربية إلى روسيا، وبقي بعد انتهاء الحرب في الأناضول لفترة غير أنه عاد إلى مصر ليعاود عمله الحكومي بنظارة المعارف والأوقاف.
أبو التعليم
كان لعلي مبارك الفضل في إنشاء عدد من المدارس منها دار العلوم والسنية والألسن، وهو من أنشأ مجلة روضة المدارس التي كان لها الفضل في استكشاف مواهب الكثيرين ممن صاروا أعلاما في الأدب المصري الحديث.
غير أن من أهم أعماله تنظيمه لديوان المدارس وإصراره على استمرار المشروع التعليمي في مصر بصورته المنظمة الحديثة التي كانت أساسا لتطويره فيما بعد، بالإضافة إلى اهتمامه بتوسيع دائرة التعليم لتشمل المصريين جميعا ولولا عوائق رفض الحكام في ذلك الوقت لميزانيات التعليم لكان قد طبق مجانية التعليم وإلزامه في وقت مبكر، ومما يحكى عنه أنه في أثناء توليه نظارة الأشغال تولى بنفسه تعليم بعض الجنود القراءة والكتابة وكان يفتخر بأنه يقوم بالتعليم بنفسه في كل وقت.
ولعلي باشا مبارك كثير من المؤلفات التي تنوعت مجالاتها، غير أن أشهر مؤلفاته يتمثل في الخطط التوفيقية، وهي كتاب يتكون من عشرين مجلدا تعرض للمدن المصرية وجغرافيتها وتركيبها السكاني وكل ما يتعلق بها، غير أن له واحدة من أوائل الروايات التعليمية في تاريخ الأدب العربي، هي رواية (علم الدين) وهي الرواية التي تحكي قصة شيخ أزهري يسافر إلى فرنسا ليكسب عيشه، ليبدأ في التماس مع المجتمع الفرنسي ويتأمل أسباب حضارته وعلومه ويبدأ في عرض تلك العلوم بتفصيل يصلح للقارئ غير المتخصص، وهي رواية فريدة في عصرها.
توفي علي مبارك في نوفمبر عام 1893 عن سبعين عاما بعد أن أسهم بنصيب كبير في نهضة بلاده وتعليم أبنائها فكان لقبه الأثير أبو التعليم في مصر.