كانت أمي تصطحبني دائما إلى السينما في وسط البلد. في سن الأربع والخمس سنوات، كانت حفلة الكارتون “توم وجيري” في سينما مترو من الطقوس اللازمة: يوم الجمعة الساعة الثانية عشر لمدة ساعة، بين حفلة العاشرة صباحاً وحفلة “من ثلاثة لستة”. اليوم نشير لمواعيد عرض الأفلام باستخدام كلمة “عرض” العملية، الباردة، لكن حتى نهايات القرن الماضي، كنا نعبر عن تجربة مشاهدة الفيلم بكلمة “حفل”. وفي حالتي، كان الذهاب إلى السينما بصحبة أمي حفلاً حقيقياً، وطقساً يستلزم أن نلبس ملابس خروج وأن نستقل تاكسيا، لحضور فيلم يستلزم أن يحيطنا بهالة سحرية لأنه يقتضي أن تطفأ الأنوار في القاعة وأن نلتزم الصمت. وهو طقس يختتمه سندوتش فاخر في محل جروبي، الموجود في “شارع سليمان” على بعد خطوات من سينما مترو في وسط البلد.
ميكي ماوس
حتى الستينات من القرن الماضي، كثيراً ما كان الناس يقولون: “ميكي ماوس” بدلاً من “أفلام الرسوم المتحركة” أو “الكارتون”. وكانت هذه الأفلام من المعلوم من السينما بالضرورة، تُعْرَضُ قبل الفيلم الروائي الطويل الذي يشكل العنصر الرئيسي في “البروجرام”. وأمضيت سنيناً محتاراً بين استخدام الناس لعبارة “ميكي ماوس” التي تشير للفأر بطل عالم شركة والت ديزني، بينما أشاهد أسبوعياً فأراً آخر، طفلاً، اسمه “جيري”. لم أكن أعرف في طفولتي أن “جيري” قد ظهر عام 1940 وأنه ملك شركة مترو جولدن ماير، ولذلك كان يطل الأفلام التي تعرضها سينما مترو في القاهرة. لكني أيقنت أن الكارتون هو فيلم تتحرك رسومه، فكاهي، وجوهر تعريفه هو أن بطله فأر.
كان الذهاب إلى السينما بصحبة أمي حفلاً حقيقياً، وطقساً يستلزم أن نلبس ملابس خروج وأن نستقل تاكسيًا، لحضور فيلم يستلزم أن يحيطنا بهالة سحرية
وعندما قاربت على العاشرة، كانت أمي تستطلع رأيي فيما أحب مشاهدته من أفلام في دور العرض، وبكل أريحية تشاهد معي أفلامي المحببة من أنواع الأكشن، البوليسي، الكاوبوي، والكوميدي. ولم تكن ترضى لي بمشاهدة “أفلامها” في السينما إلا أفلام فاتن حمامة، مثل “إمبراطورية ميم”، أو “حكاية وراء كل باب”، أو “أريد حلاً”. ومع ذلك، كانت تميز بين ما تسمح لي بمشاهدته، وما تذهب لمشاهدته وحدها، في مطلع السبعينات المتحررة أخلاقياً وسينمائياً. فلم تصطحبني إلى السينما لمشاهدة “الخيط الرفيع”، رغم أنه لفاتن حمامة، ولم تسمح لي بمشاهدة أفلام ثانية بطلاتها نجمات أخريات مثل “أنف وثلاثة عيون”، “أين عقلي؟”، و”غابة من السيقان”. لم أدرك إلا بعد عقود أنها كانت تمارس الرقابة العائلية، مع تفتح ذهن كبير، جعلها تسمح لي بمشاهدة “المذنبون” من بطولة سهير رمزي رغم أنه صادم جدا حتى بالنسبة لطفل على أعتاب المراهقة.
هل تربت ذائقة جيلي وأجيال سبقتني على استحسان الميلودراما، تلك الأفلام الحزينة التي تجيش فيها المشاعر وتتعذب فيها البطلات ويتألم فيها العشاق بسبب الفقر أو الفراق أو الحسد؟
تمييز الممنوع
على ما يبدو، كانت أمي تميز الممنوع والمشروع بناء على الأنواع الفنية. فالنوع الاجتماعي ذو المواضيع الجريئة ممنوع على أية حال، والميلودراما للبيت، والأكشن لخارجه. كانت الأفلام الجادة المتاحة في التلفزيون ميلودرامات (أو نقيضها من الكوميديات والفودفيل) في الأغلب، ومعها في قاعات العرض، خارج المنزل، كان المسموح به هو نفس المتاح في التلفزيون، لكن من إنتاج جديد، من أفلام الحركة والتشويق والكوميديات. هل تربت ذائقة جيلي وأجيال سبقتني على استحسان الميلودراما، تلك الأفلام الحزينة التي تجيش فيها المشاعر وتتعذب فيها البطلات ويتألم فيها العشاق بسبب الفقر أو الفراق أو الحسد؟ لا أذكر أن أحداً امتدح أفلام حسن الإمام الميلودرامية أمامي قبل سن العاشرة. لكن في سن السادسة، شاهدت “البؤساء” من بطولة عباس فارس وأمينة رزق، وحدي، في سهرة المساء التلفزيونية، وغادرت فراشي في الصباح التالي مستعينا بمضرب تنس خالي الكبير، أستخدمه وكأنه عكاز لأقلد عرج عباس فارس واعتكازه في فيلم البارحة. كأن الميلودراما وحي أو قدر جيل، وكأن الأبطال المحزونون يتلبسون جيلاً بأكمله…
نص رائع أستاذ وليد. ليتك توسعت في سرده أيضاً.. ربما تكون هناك حلقة جديدة
سرد تثقيفي لذكريات الطفولة يحمل الكثير من المعلومات عن السينما وتربية الاطفال السينمائية في تلك الحقبة. اثمن هذه الام الواعية والمثقفة واقدر اثرها عل ثقافة ابنها السينمائية. هذا ما ترك اثرا واضحا على توجهه ودراسته المستقبلية في رسالة الدكتوراة.
“الام مدرسة ان اعددتها اعددت جيلا طيب الاعراق.”
كل الاحترام والذكر الخالد لهذه الام ومثيلاتها فهي حقيقةً مثلا يحتذى .
ودمت َ لنا وللثقافة العربية دكتور وليد الخشاب .
اجمل التحيات من زميلتك في برناج الدراسات العربية في قسم اللغات في جامعة يورك – كندا.