عندما قرأتُ تاريخ الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” حوالي ثلاث مرات في فترات مختلفة من حياتي، خاصة في أوقات الأزمات واليأس. وفي كل مرة كنتُ أغيب في جنبات هذا السِّفر مُترامي الأطراف، مستمتعًا بشكل خاص بلغته التي يراها البعض ركيكة.
غلاف كتاب “عجائب الآثار في التراجم والأخبار
لست استثناء في جيلي، فقد وقع كثيرون من أبنائه فيما يمكن أن نطلق عليه (الجبرتيمانيا).. أي الولع بالجبرتي. بل إن البعض منهم استلهم تاريخه في أعمالهم الأدبية. ولربما كان هذا الولع عائدًا إلى طريقة الرجل، التي تبدو تلقائية، في سرد أحداث عصره وأسلوبه الفريد وعنايته بالكبيرة والصغيرة في سرده للحياة اليومية للمصريين بمختلف طوائفهم، فيخلق نوعًا من المُعايشة والاندماج بين القارئ والنص.
صورة تخيلية لعبد الرحمن الجبرتي ظهرت على طابع بريد مصري
مع الجبرتي تكاد تشم رائحة الحارات والأزقة وتسمع أصوات الباعة ونداءاتهم. إلا أنني عندما قرأتُ كتابه غير الشائع “مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس” لاحظت بعض الاختلاف بين الكتابين في تناوله لحادثة مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي.
كانت محاكمة سليمان الحلبي أول محاكمة قانونية على الطراز الحديث تشهدها مصر؛ فلأول مرة تشهد مصر محاكمة فيها دفاع وادعاء وتحقيق وتقرير طب شرعي (مع ملاحظة أن القضاة والمحققين وهيئة الدفاع والطبيب الشرعي كانوا كلهم من الفرنسيين).
صورة رمزية لسليمان الحلبي
وبعد انتهاء التحقيقات، علَّق الفرنسيون منشورات تتضمن تفاصيل الواقعة. ويقول الجبرتي إنه أعرض في البداية عن ذِكر هذه الأوراق “لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة” لكنه تراجع عن موقفه بعد أن رأى شغف كثير من الناس للاطلاع على تفاصيل الواقعة وتنظيم المحاكمة “ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكِّمون العقل، ولا يتدينون بدين.
ونستكمل تفاصيل هذه الشهادة التي يقدمها عبد الرحمن الجبرتي الأسبوع القادم.