أحدث الحكايا
صورة تعبيرية

محمد سليمان عبدالمالك يحكي: لقاءات قريبة مع هادم اللذات

واجهت الموت لأول مرة في زمن الطفولة البعيد قبل أن يتشكل الوعي والإدراك. لم يتبق من هذه المواجهة إلا شذرات متباعدة من لمحات خاطفة استقرت في عمق الذاكرة.

(١)

خيمة الأوكسجين

لم أكن قد تجاوزت الأربع سنوات حسبما تحكي لي أمي، من ذا الذي يمكن أن يحتفظ بذكريات من هذه الأيام الموغلة في القدم، إلا إن كانت تخص كائنا بمهابة وجلال الموت نفسه؟!

تحكي أمي: كنت سأفقدك عندما أصبتَ بالالتهاب الرئوي. الطبيب المعالج كان ينظر إليك داخل خيمة الأوكسجين وهو يغمغم بيأس وحسرة، أليس حراما أن نفقد طفلا جميلا كهذا؟!

تفسر أمي ككل الأمهات الأمر بأنه عين حاسدة، تحكي عن شعري الذهبي وعيناي الخضروان وملامحي الإفرنجية، وتتذكر مستغربة أن أبي الذي لم تره يبكي طوال عمره، قد بكى أيامها لأنه كان على وشك أن يفقدني.

 

طاردتني أحلام كثيرة في تلك الليلة، تداخلت بقايا الذكريات مع أضغاثها حتى لا أميز حتى اليوم بين الواقع والهلاوس. حلقتُ بعيدا عبر عوالم انفتحت أمامي، ربما قادني إليها شبح الموت نفسه.

 

خيمة الأكسجين – صورة تعبيرية

ربما تعيش

أتذكر خيمة الأوكسجين، كنت مستلقيا على السرير أنظر إلى الجدار البلاستيكي الشفاف من فوقي عاجزا عن الفهم، أتذكر أنني كنت أتفصد عرقا من فرط الحرارة الملتهبة، أتذكر أني بكيت بحرقة عندما أغلقوها علي، وظللت داخلها وحيدا مع شبح الموت المخيم.

تحكي أمي: الطبيب أخبرنا أنه لو مرت تلك الليلة بسلام، فربما تعيش.

طاردتني أحلام كثيرة في تلك الليلة، تداخلت بقايا الذكريات مع أضغاثها حتى لا أميز حتى اليوم بين الواقع والهلاوس. حلقتُ بعيدا عبر عوالم انفتحت أمامي، ربما قادني إليها شبح الموت نفسه. أغمضت عيني في النهاية، وغرقت في السواد.

عندما انفتحت عيناي في نهار اليوم التالي، انفتحت سوستة خيمة الأوكسجين في نفس اللحظة عن وجه أبي وأمي وهما ينظران نحوي في طمأنينة. الساعات الأسوأ مرت بسلام، وشبح الموت كان كريما فأعادني إلى سريري حيا.

تكررت زياراتي فيما بعد إلى عوالم الخيال والهلاوس، سواء في أثناء النوم واليقظة. كأنها مناجم خيال أخرجت ما في بطونها من كنوز، ولا تزال إلى اليوم.

شكرا يا عزيزي شبح الموت على هذا اللقاء المبكر الذي لولاه – ببساطة – ما أصبحت الآن، أنا.

 

الكاتب في طفولته

 

(٢)

ماشي بالخطى على فين؟

لم يدخن أبي سيجارة واحدة طوال عمره، كان محافظا على صحته ولياقته إلى حد الهوس، لذا فقد كان غريبا أن أقف أمام طبيب الأورام الذي نظر إلى أشعته الصدرية وسألني: هو مدخن شره، أليس كذلك؟!

طوال شهور، كان أبي يعاني من الكحة وضيق التنفس. بالفحوصات اكتشفنا مياها تتجمع فوق الرئة ولابد من بذلها لكي يستريح. بتحليل العينة الاستكشافية كانت النتيجة البائسة اللعينة: سرطان في الرئة من النوع الخبيث. أمامه بضع شهور فحسب.

كانت شهورا مريرة من السقوط الحر في بئر بلا قاع. لم أستطع مواجهته بالحالة وإن كان قد استنتجها وحده ولم يلح في السؤال. كيف يمكن أن أواجهه بأن ما عاش يتجنبه ويهرب منه بكل ما أوتي من قوة قد تمكن منه في النهاية؟! كيف أخبره أن الورم يخرج لسانه له ولكل ما فعله من أجل نفسه، وأن شبح الموت سيدق الباب بين يوم وآخر وما علينا الآن سوى انتظار طلته؟!

 

صورة تعبيرية

 

الترامادول لعلاج الألم، قناع الأكسجين من أجل التنفس، ولا مزيد. كانت الأحوال تسوء باطراد، لم يعد يستطيع المشي وحيدا، ظل يهلوس بضعة أيام حتى صحوت في يوم من الأيام ووجدت أمي تهمس أمام باب غرفته: خلاص. ولم تستطع منه نفسها من الانفجار في البكاء.

دخلت إلى الغرفة، كان شبح الموت جالسا بجوار جثمان أبي، تجاوزته دون كلمة، نظرت إلى الجسد الممدد بلا حراك، اقتربت منه وقبلته في جبهته: مع السلامة.

 

كان شبح الموت جالسا إلى جواري في السيارة ساكنا متجهما، فسارعت بمسح الدمعة الشاردة وواصلت القيادة عبر الطريق الطويل.

 

الكاتب مع والده الراحل

دمعة شاردة

لم أستطع حضور الغُسل ولم أستطع النزول إلى المدفن ولم أذرف دمعة واحدة طوال العزاء، فرت الدمعة الأخيرة عندما كنت على طريق القاهرة الإسماعيلية الصحراوي أسمع أنغام عبر المسجل وهي تغني: بان في عيون العصر لما زغللت.. الليل يجيها يحني ضهر الزين.. أنا شفت روح الخطوة لما اتبرجلت.. عكازها ماشي بالخطى على فين..

وكان شبح الموت جالسا إلى جواري في السيارة ساكنا متجهما، فسارعت بمسح الدمعة الشاردة وواصلت القيادة عبر الطريق الطويل.

(٣)

صاحبة المقام

المرة الوحيدة التي نزلت فيها للمقبرة كانت من أجل دفن جدتي لأمي. كانت صاحبة مقام خاص في قلبي. كرهت عجزي وأنا أراها في أواخر أيامها غائبة في متاهات خرف الشيخوخة، حتى أنها لا تدرك أحدا ولا تنطق ولا تتحرك، تأكل بصعوبة وتزوم من حين لآخر، وكفى.

الفصل الأخير في كتاب معاناتها كان طويلا، لكنه لم يكن أطول الفصول. منذ ولدت لأسرة فقيرة وهي تعاني سوء معاملة الأب البخيل. منذ أصبحت زوجة ثانية وأنجبت أمي ابنتها الوحيدة، فأصبحت شقيقة لعدد كبير من الأبناء من زوجة أولى، وهي تعاني. منذ سُجن زوجها فحصلت على الطلاق، وعانت الأمرين في العمل على ماكينة الخياطة لكي تربي ابنتها وهي تعاني. فصول المعاناة تستمر بزواج أمي وإنجابي لكن هذه قصة أخرى.

صورة تعبيرية

 

سكنت جدتي في منزل مجاور للمقابر، واظبت على زيارتها لكي أقترب من هذا العالم الغامض واقفا على بابه، مستمعا للأساطير التي تنسج حول الجن الذي يسكن النعوش، وحول حارس المقبرة العجوز الذي يتحول ليلا لكائن آخر، وحول الموتى الذين تحوم أرواحهم حول المنطقة، وعن أصوات الليل، وزيارات النهار في الأعياد والمناسبات.

 

وقفت قرب الحفرة بينما الجثمان ينزل إليها. عرفت يومها فقط أنه يجب الكشف عن وجه الجثة قبل إهالة التراب، وبالفعل، ألقيت على الوجه نظرة أخيرة لا زلت أجاهد لكي أنساها.

 

لم يحضر

لم أعبر عتبة الباب حتى لا أصاب بالجنون الذي يصيب كل من ينغمسون في هذه الحكايات فلا يخرجون منها كما دخلوها أبدا.

حملنا نعش جدتي إلى تلك المقابر، ووقفت قرب الحفرة بينما الجثمان ينزل إليها. عرفت يومها فقط أنه يجب الكشف عن وجه الجثة قبل إهالة التراب، وبالفعل، ألقيت على الوجه نظرة أخيرة مازلت أجاهد لكي أنساها.

عندما خرجت وبدأوا يهيلون التراب بالفعل، نظرت من حولي، باحثا عن شبح الموت، لكنه لم يحضر يومها، وتركني في حيرة عارمة من أمر غيابه غير المفهوم.

الكاتب مع والدته

عن محمد سليمان عبد الملك

كاتب وسيناريست، درس الطب البشري ودخل في عالم الكتابة كروائي عام ١٩٩٩ ثم تفرغ للكتابة الدرامية منذ عام ٢٠١٠. له العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، بالإضافة لإسهامات في الكتابة الروائية والصحفية والقصص المصورة.

تعليق واحد

  1. ايمان فرحات

    اسلوب حصرتك دايما مبهر…🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *