لم يبرأ والد ندا في نظره حتى وفاته عام 2013 من صدمة انهيار حلم العروبة، فقد كان واحدًا من ضحايا النكسة، حيث تعرض لمضايقات أمنية بسبب دفاعه عن حرية الرأي، مما اضطره للهجرة أولًا إلى السعودية عام 1974، ثم إلى العراق وليبيا، في هجرات متتالية أدت إلى مرارة دائمة في الحلق.
بعد اثني عشر عامًا على رحيل الأديب سمير ندا، ما زال محمد يطوي أنينه على وفاة أبيه بين جنبات نفسه “غضبت من أبي لأنه رحل فجأة، نام ليلة 11 أبريل 2013 ولم يستيقظ!”، لكن قبل رحيله، منح الأب -صاحب رواية “الشفق”- “إجازة” الكتابة، يروي محمد:
“في نوفمبر 2012 قرأ نصف مخطوط روايتي الأولى (مملكة مليكة)، ثم قال لي بعد يوم: “يخرب عقلك انت مخبي الحاجات دي فين!”.
اندهش الأب من براعة ابنه في السرد، وتمكنه من غزل تفاصيل عن حكايات جد أبيه “عبد الحميد ندا” الذي عمل معاونًا لخديو مصر “عباس حلمي الثاني”، وكان مسؤولًا عن تحفيظ أولاده القرآن “كان جدي مرافق له في رحلته للأستانة عام 1914، وفي تلك الرحلة تم عزل عباس حلمي ونفيه ومعه جدي”.
الجد يحمل أحمد الابن الأكبر لسمير ندا وفي يده الأخرى يمسك بمحمد
لم يشهد سمير ندا نشر رواية ابنه الأولى. بعد رحيله عقد محمد العزم على مواصلة الكتابة تكريمًا لذكرى والده الذي مارس النقد والإبداع المسرحي والسينمائي والروائي، وفي 2016 نشر روايته الأولى، ثم الثانية (بوح الجدران) بعدها بخمسة أعوام، متناولًا فيها سيرة أبيه. كانت الروايتان الأولى والثانية حجر الأساس في مسيرته الأدبية، قبل أن تصدر “صلاة القلق” لتؤكد مكانته، ورغم امتلاكه أعمالًا غير منشورة -رواية و9 نوفيلات- إلا أن خطوة النشر تُعدّ شهادة على إبداعه.
الابن محمد سمير ندا
بعد فوز ندا بجائزة البوكر، وتلقيه إشادات عديدة، كان أبرزها شهادة أحد أمناء الجائزة عن روايته “لقد قُلتَ كل شيء دون أن تقول أي شيء”، إلا أن ندا لم يسكُن فؤاده، ظلّ قلبه مُعلقًا بوالدته سامية دياب -قارئته الأولى-، التي يقول عنها: “الطبيعي إني أجري على أمي أفرّحها”. لكن حينما وصل إلى مصر وهرع إليها، لم يجد في عينيها ذلك البريق الذي يبحث عنه.
فقد سرق مرض ألزهايمر ذاكرتها منذ خمس سنوات، ولم يجد ما يخفف ألمه سوى أن شرعا معًا في الغناء “يا جمال يا حبيب الملايين.. في طريقك ماشيين”، يُعلّق ندا:
“هذه طريقة استخدمها لأشعر وكأنها ما تزال تتذكر، أعيدها إلى حقبة لم تنساها بعد، أحاول إقناع نفسي أنها ما تزال تحتفظ ببعض الذكريات”.
الكاتب في طفولته
انضم اسم محمد سمير ندا إلى قائمة الفائزين بجائزة البوكر التي ضمّت قبله كاتبين مصريين، ليصبح ثالثهما بعد بهاء طاهر ويوسف زيدان، يقول ندا بصوته يحمل رنّة الحلم “لم يخطر ببالي حتى في أصفى أحلامي أن يُذكر اسمي بعدهما”، يرى أن لكل من الروائيين مشروعًا أدبيًا ضخمًا، بيما لا يزال هو في بداية مشواره الأدبي:
“ما زلت أحتاج إلى عشر أو عشرين سنة حتى أستطيع المقارنة بهم، رغم أنني لست من محبي المقارنات، يكفيني فخرًا أن يُذكر في التاريخ أن هناك كاتبًا موهوبًا اسمه محمد سمير ندا”.
لم يُعدّ محمد صياغة كلمته التي ألقاها أمام نخبة المثقفين في أبو ظبي، بل آثر استحضار عبارة أبيه التي قالها إثر مصادرة ديوان “غاب القمر” للشاعر مجدي نجيب عام 1969، مُعتليًا منصة التكريم برداء الشجاعة نفسه الذي ارتداه سمير ندا طوال حياته، ساعيًا لاتباع خطى أبيه الذي دفع ثمنًا باهظًا لشجاعته، يختم ندا الحوار بقوله: “لم أجد أفضل من كلمات أبي لأقولها في تلك اللحظة، لأني أؤمن أن فوز هذه الرواية سيفتح آفاقًا جديدة للحرية أمام كل كاتب، ليكتب بلا خوف أو قيد”.
الكاتب مع والده
لقراءة الجزء الأول والثاني من هذا الحوار اضغط هنا👇🏻
محمد سمير ندا: النكبة فعل مضارع مستمر وفوز “صلاة القلق” انتصار لحرية التعبير
محمد سمير ندا: النكبة فعل مضارع مستمر وفوز “صلاة القلق” انتصار لحرية التعبير