أحدث الحكايا

محمد صالح يحكي: حصة الموسيقى والأمن القومي

ما زلت أذكر تلك الرائحة التي اشتممتها للمرة الأولى حينما ولجت إلى غرفة الموسيقى في مدرسة حدائق شبرا الابتدائية، كانت رائحة “أبلة شكرية” التي ما زلت أذكر اسمها حتى الآن.

لا أذكر كثيراً من التفاصيل، إلا أنه، وبالقطع، فقد أثرت فيّ تلك الحصص، وفي ارتباطي فيما بعد بالموسيقى، حتى أصبحت لوقت طويل مهنتي الأساسية (زهاء 17 عاماً قضيتهم في أوركسترا القاهرة السيمفوني)، وأصبح شغلي الشاغل فيما بعد قضايا المشهد الموسيقي والفني بصفة عامة.

الموسيقار محمد صالح طفلا
الموسيقار محمد صالح طفلا

اليوم، وبينما ألمح ما نحن بصدده من إنشاء الجمهورية الجديدة، وما أراه من خطوات فائقة التفاؤل ببناء دار أوبرا مهيبة وفاخرة تليق بمصر التي دائماً ما كانت منارة الفنون في المنطقة بدوائرها الثلاث (إفريقيا والشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط)، آمل أن تتلافى الجمهورية الجديدة أخطاء الجمهورية “القديمة”، حيث تدهورت أحوال المدارس الحكومية، وفتحت الطريق لطابور طويل من تجارة التعليم لحساب أشكال وألوان من المدارس الخاصة والتجريبية واللغات، فالدولية فالبريطانية والألمانية والفرنسية وغيرها. حتى أصبح ما يربط كل تلك المدارس المسئولة عن تربية النشء بوزارة التربية والتعليم المصرية هو مادتا اللغة العربية والتربية الدينية بلا زيادة ولا نقصان.

دار الأوبرا بالعاصمة الإدارية الحديدة
دار الأوبرا بالعاصمة الإدارية الحديدة

أما امتحانات الثانوية العامة فأصبحت تقتصر على العامة من أهالينا ممن ما زالوا يرغبون في الالتحاق بالجامعة المصرية، التي تعاني هي الأخرى من مشكلات مماثلة فيما يخص البيزنس وخلافه.

إن أبناءنا في المدارس الأجنبية على أشكالها المختلفة يلتحقون بجامعاتهم الخاصة، ويعيشون حياتهم الخاصة في ضواحيهم وكومباونداتهم الخاصة، والآن أصبح بإمكان الشاب والفتاة أن يعيشا حياتهما بطولها وعرضها دون أن يتعرضا لا سمح الله للنزول إلى وسط مدينة القاهرة أو إلى أحد أحيائها الشعبية.

 لقد تزامنت كل المشكلات سابقة الذكر في الجمهورية “القديمة” مع اختفاء الفن والثقافة والرياضة في مدارسنا -التي لم تعد، بطبيعة الحال، مدارس ذات طبيعة واحدة، ولا حتى متقاربة!

ولما كان الدستور هو العقد الاجتماعي بين المواطنين القاطنين على قطعة من الأرض تسمى “الوطن”، وهو الوثيقة التي تفسر علاقة هؤلاء المواطنين ببعضهم البعض، وعلاقتهم بالدولة وبمؤسساتها ومرافقها العامة، فإن الأماكن التي يمكن أن يلتقي فيها جميع أطياف الشعب لم تعد موجودة، وأعني هنا التعليم والصحة والبنية التحتية.

فلا تعليم جامع يصهر مواطني الدولة جميعاً في بوتقة واحدة، ولا تأمين صحي جامع شامل يضع جميع المواطنين تحت مظلته، ولا مواصلات عامة ولا بنى تحتية قادرة على أن تكون ذلك المكان الذي يلتقي فيه أستاذ الجامعة والعامل والفلاح والمهندس والمحامي.

من هذه الزاوية، لم نعد نحن الأمة المصرية أمة واحدة، بل أصبحنا شعوباً وقبائل وطوائف مختلفة ينضوي كل منها تحت مظلة مجتمعه، ويعيش في ظل ثقافته الخاصة، وتحت تصنيفات طبقات أخرى اجتماعية وجغرافية واقتصادية ومؤسساتية، حتى بات بعض أبناء شعبنا لا يعرف شيئا عن مواطنيه من منطقة جغرافية أخرى، بل لم تعد تربط هؤلاء ثقافة مشتركة، وهو أمر جد خطير في ظل ما نحن بصدده وهو إنشاء جمهورية جديدة.

اختفاء حصص الموسيقى

لقد تزامنت كل المشكلات سابقة الذكر في الجمهورية “القديمة” مع اختفاء الفن والثقافة والرياضة في مدارسنا -التي لم تعد، بطبيعة الحال، مدارس ذات طبيعة واحدة، ولا حتى متقاربة!-، فلم تعد هناك حصة للموسيقى، ولا حصة للرياضة، ولا فريقاً للمسرح، ولا مجموعة للفن التشكيلي أو للشعر وغيرها.

حصة الموسيقى قديما

 

السبب في ذلك هو التعامل مع تلك المهن والقطاعات المحترمة والهامة بوصفها “ترفيهاً” و”تسليةً” يجب أن تأتي في أوقات الفراغ لا في أوقات الدرس، وهو ما أدى نشوء أجيال جافّة، بليدة الحركة، سقيمة الخيال، تعوّدت على القبح فتعوّد القبح عليها، واستمرأت القبح ليصبح القاعدة لا الاستثناء في شتى مناحي الحياة.

وما المآسي التي نطالعها حولنا في أنحاء الشرق الأوسط من ليبيا إلى العراق ومن اليمن إلى سوريا، وانتشار التطرف والجهل والفقر وحتى المرض بين قطاع واسع من الجماهير، إلا نتيجة عجزنا عن العثور على ذلك “الأسمنت” بين طبقات المجتمع والأمة، “الأسمنت” القادر على تجسيد الهوية المصرية الحقيقية.

فريق المسرح يكرّس عند النشء أصول العمل الجماعي، والإحساس بالإنجاز، ويوسّع المدارك والخيال عند التلاميذ

 جمهورية جديدة .. أمل جديد

وأعتقد أن سعينا نحو الجمهورية الجديدة، التي أظن أنها ستكون “دولة مدنية ديمقراطية حديثة” فيما أظن وآمل، واتساقاً مع الدستور المصري، تبدأ حيث يأتي إلينا التلاميذ فنعلّمهم مواضع التشابه لا الاختلاف، ونعلّمهم مواطن التقارب لا التباعد، ونفتح لهم آفاق الصوت والصورة واللون والخط والكتلة وبراح الثقافة والمعرفة التي تجمع البشر.

ويبدأ ذلك، كما أعتقد، من حصة الموسيقى، ومناهج الموسيقى، ومن حصة التربية البدنية ومن مناهج التربية البدنية، (والتربية البدنية هنا لا تعني كرة القدم وحدها، وإنما تعني التربية البدنية بمفهومها الشامل)، ويبدأ من حصة الرسم، ومناهج الرسم ومخاطبة مشاعر الإنسان وقدرته على الإحساس بالألوان والخطوط الكتل، ويبدأ من فريق المسرح الذي يكرّس عند النشء أصول العمل الجماعي، والإحساس بالإنجاز، ويوسّع المدارك والخيال عند التلاميذ. ثم بعد ذلك تأتي الثقافة ممثلة في الكتب والعروض المسرحية والحفلات الموسيقية ومعارض الفنون التشكيلية لتكمل ذلك الطريق.

ذلكم هو خط الدفاع الأول ضد التطرف والإرهاب والجهل، وذلكم هو حصن الأمان للأجيال الجديدة، فالمواطن الذي يدرك أن مصلحته هي مصلحة دولته، وأن مصلحة أبنائه هي ذاتها مصلحة حكومته، هو المواطن الذي يدافع عن الدولة (مصدر مصلحته) قبل الأجهزة الأمنية، ويذود عن وطنه ضد الأعداء في الداخل والخارج، بعدما أدرك أن وحدة الأرض واللغة والثقافة والآمال هي ما يربط أبناء الشعب الواحد.

عن محمد صالح

موسيقي وكاتب ومترجم. تخرج من كونسيرفاتوار بطرسبورج الحكومي (روسيا) عام 1996، عمل بأوركسترا القاهرة السيمفوني – دار الأوبرا المصرية في الفترة من 2000-2017. يعمل محررا بالموقع العربي لقناة "روسيا اليوم" من 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *