شهرزاد
يطرح الأديب الروسي والكاتب المسرحي إدوارد رادزينسكي (مواليد 1936) نظرية في غاية الأهمية عن مقتل موتسارت، بعد دراسة وبحث طويلين عن ذلك الموضوع، حيث إنه رأى منذ البداية أنه من المستحيل أن يقدم سالييري المؤلف الموسيقي المعروف على أمر كهذا، بيد أن ما كتبه بوشكين عن مقتل موتسارت وعلاقته “بشخص ما” يرى دون أن يستطيع، ويسمع دون أن يتكلم، ويفهم العبقرية دون أن يكون عبقرياً، كل ذلك بدا لرادزينسكي شخصاً حقيقيآً متجسّداً يجب البحث عنه.
وبعد أن شرحت في الحلقة السابقة رواية شافير، وتراجيديا بوشكين، فقد وجد رادزينسكي ضالته في الدبلوماسي فراير فان سفيتين (1733-1803) الذي خدم في البلاط النمساوي في القرن الثامن عشر، وكان هاوياً مولعاً بالموسيقى. وُلد فان سفيتين لعائلة هولندية في مدينة ليدين، وأمضى حياته هناك حتى الحادية عشرة، وكان والده باحثاً في علوم الطب. وعام 1745 أصبح والده الطبيب الشخصي للإمبراطورة ماريا تيريسا، وقدم وقتها فراير فان سفيتين إلى فيينا. كان الإبن سفيتين متميّزاً في دراسته، وتعلّم عدداً من اللغات، وبدأ عمله دبلوماسياً في بلجيكا ثم باريس ووارسو وبرلين.
في الوقت نفسه درس فان سفيتين علوم الموسيقى على يد أحد تلاميذ يوهان سيباستيان باخ (1685-1750)، وشرع في تأليف عدد من المؤلفات من بينها ثلاث أوبرات كوميدية من بينها واحدة عرضت في باريس، وعدد من السيمفونيات (11 سيمفونية) لا تتميز بأي روح إبداعية على حد تعبير قاموس جروف للموسيقى. كان فان سفيتين على حق مؤلفاً متواضعاً غير موهوب كما وصفه بوشكين، وكما ظهر تحت إسم “سالييري” في فيلم ومسرحية “أماديوس”.
وفقاً لرواية أحد الموسيقيين، فإن موتسارت أصيب في أعوامه الأخيرة بحمى العمل، كان يعمل طوال الوقت منكباً على مدوناته الموسيقية وقائداً لأعماله وأوبراته، ويعزف كونشيرتاته، حتى أنه وعقب أحد الأوبرات وبعدما أصبح المسرح خاوياً من الجمهور لم يتمكن من التوقف عن العمل، فسأل زميله الموسيقي: “هل تريد أن أعزف لك”.. وجلس ليعزف له، ليروي لنا ذلك الموسيقي أنه لم يسمع طوال عمره عذوبة كهذه وصوتاً كهذا .. حتى بدا للحظة وكأن “السماء تتحدث”.
قابل فان سفيتين موتسارت في بلاط الإمبراطورة ماريا تيريسا حينما كان في الخامسة والثلاثين من العمر، وكان موتسارت في الحادية عشرة، ثم قابله في مناسبات عديدة بعد ذلك في فيينا، وكان يستشيره في بعض المخطوطات الموسيقية التي يشتريها لباخ وهاندل. يقترح رادزينسكي أن ذلك اللقاء، وتلك الغيرة التي أصابت قلب الشاب المتحقق اليافع والموهوب (في اللغات والدبلوماسية وتبويب المكتبات والموسيقى إلى جانب ذلك كله) حينما رأى أن عمله المضني في جميع المجالات لا يحقق له ذرة مما يتحقق لموتسارت بكل سهولة ويسر بينما يلعب ويلهو ويتعامل مع موهبته الراسخة والمؤثرة على هذا النحو من الاستهتار. حينما عاد فان سفيتين إلى فيينا حصل على منصب رئيس المكتبة المركزية، والمسئول عن التعليم، إلى جانب ممارسته التأليف الموسيقي، أي أنه بشكل أو بآخر كان مسئولاً عن الثقافة في الإمبراطورية النمساوية (في ذات الوقت الذي يعتبر نفسه مؤلفاً موسيقياً شأنه في ذلك شأن موتسارت!).
حينما قضى موتسارت نحبه، ظهر فراير فان سفيتين صباح اليوم التالي ومنح أرملته ثمان ريالات نمساوية وخمسة وستين كريتسير، ثم نفحها ثلاث كريتسيرات إضافية للعربة التي ستنقل الجثمان كي يدفن في مدفن جماعي للفقراء.
وكأن السماء تتحدث
وفقاً لرواية أحد الموسيقيين، فإن موتسارت أصيب في أعوامه الأخيرة بحمى العمل، كان يعمل طوال الوقت منكباً على مدوناته الموسيقية وقائداً لأعماله وأوبراته، ويعزف كونشيرتاته، حتى أنه وعقب أحد الأوبرات وبعدما أصبح المسرح خاوياً من الجمهور لم يتمكن من التوقف عن العمل، فسأل زميله الموسيقي: “هل تريد أن أعزف لك”.. وجلس ليعزف له، ليروي لنا ذلك الموسيقي أنه لم يسمع طوال عمره عذوبة كهذه وصوتاً كهذا .. حتى بدا للحظة وكأن “السماء تتحدث”.
