أحدث الحكايا

منير عتيبة يحكي: حكاية “يفيرسكيا أوبلست”.. وطن اليهود الذي هجروه ليحتلوا فلسطين

لم يكن الانحياز الإعلامي العالمي لإسرائيل في عدوانها الغاشم على أهالي غزة بعد عملية طوفان الأقصى هو الأول، ولن يكون الأخير، فما بين الغرب وبين الصهاينة -ولا أقول اليهود- أكبر من مجرد علاقة قوية أو شراكة مصالح، لكنهما كالجسد الواحد والروح الواحدة، لذلك هانت من أجل إسرائيل كل المواثيق الدولية، والقانون الدولي الإنساني، وقرارات الأمم المتحدة، وتقارير منظمة العفو الدولية، وحقوق الإنسان، التي تثبت أن ما تفعله إسرائيل في غزة هو جريمة حرب، وإبادة جماعية للمدنيين.

مقاطعة يهودية مهجورة

لكن المفاجأة التي قد لا يعرفها الكثيرون؛ كانت مفاجأة لي شخصيًا عندما أرسل لي الصديق المبدع أحمد البدري المعلومة، أن الإعلام الغربي الصهيوني أخفى حقيقة مهمة للغاية، وهي وجود كيان ووطن لليهود معترف به من الاتحاد السوفيتي منذ عام 1928، أي قبل إنشاء الكيان اللقيط على أرض فلسطين بعشرين عامًا.

مما أثار شهيتي للبحث والتساؤل، فوجدت أن مقاطعة “يفيرسكيا أوبلست” وتعني بالروسية: “المقاطعة اليهودية” وعاصمتها بيروبيجان تقع على مسافة خمسة آلاف كيلو متر شرق موسكو، وقد خصصها زعيم الاتحاد السوفيتي ستالين لتكون أول مقاطعة تجمع يهود العالم، وتتمتع بحكم ذاتي في إطار الاتحاد السوفيتي، وذلك منذ عام 1928، وسمح لهم بفتح مدارسهم الخاصة يتعلمون فيها بلغتهم اليديتشية. بل إن ستالين أرسل مبعوثين إلى الولايات المتحدة لإقناع يهودها بالقدوم إلى وطنهم المستقل، ودعوة يهود العالم إلى النزوح إلى هذا الوطن، وفاض كرم ستالين فكان يمنح كل يهودي يأتي إلى المقاطعة 600 روبل ليبدأ بها حياته، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.

محطة قطار بيروبيجان

مقاطعة تستوعب كل يهود العالم!

الصهاينة لم يعجبهم أن يكون هذا الوطن المتاح بلا مشاكل وطنًا قوميًا لهم، وقال رئيس المنظمة الصهيوينة حاييم وايزمان “نبارك هذا المشروع ونحييه، ليس بديلاً عن التفكير في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل باعتباره تجربة أولى لفكرة الوطن القومي اليهودي”. وبرغم هذا سافر عدد كبير من يهود سان فرنسيسكو والأرجنتين وفنزويلا إلى “يفيرسكيا أوبلست”، لكن فرع الوكالة اليهودية في المقاطعة “مؤسسة سوكنوت” لم يلبث إلا سنوات قليلة وبدأ يحث السكان على الهجرة إلى فلسطين، إذ كانت المؤسسة تتحمل تكلفة الطيران، وتدفع لهم بسخاء مستغلة فقرهم لكي يستجيبوا لها.

والآن لنفترض بحسن ظن -وهو إثم عظيم هنا! لكن لنجرب- أن العالم يريد توفير وطن قومي لليهود، على أرض غير مغتصبة، بدون مشاكل لجيرانهم، مما يحقق أمنًا وسلامًا للعالم كله، ويحل قضية فلسطين العادلة، فهل تساعدنا البيانات الجغرافية والسكانية لتحقيق ذلك؟

اليهود الأوائل في المقاطعة اليهودية

المقاطعة اليهودية يفيرسكيا أوبلست” قادرة على استيعاب كل يهود العالم وليس يهود إسرائيل فقط. يقول الروس إن هذه المقاطعة لا يسكنها الآن سوى حاكمها لأن اليهود غادروها متعللين بسوء الأحوال بها. فالصهاينة يفضلون العيش في أراضٍ مغتصبة، وقتل أصحابها، ونهب ثرواتها، مادام هناك عالم يقف خلفهم بكل دعمه ويرى أن قصفهم الوحشي للمدنيين لا يجب أن يتوقف، لكن المدنيين هم الذين يجب أن يغادروا بيوتهم وأرضهم إلى أي مكان ليرتاح منهم الاحتلال!

مساحة المقاطعة اليهودية في روسيا 36 ألفا و244 كم مربع، وعدد سكانها 156 ألفا و500 نسمة في يناير 2021، أي أن الكثافة السكانية حوالي 4 نسمة فقط لكل كيلو متر مربع. ومساحة الكيان الإسرائيلي هي 22 ألفا و145 كم مربع، وعدد سكانه من اليهود وفقًا لتعداد عام 2018 هو 9 ملايين و203 ألف و640 نسمة، أي أن الكثافة السكانية هي 355 نسمة تقريبا لكل كيلو متر مربع، مع العلم أن عدد اليهود في العالم وفقًا لتعداد الوكالة اليهودية عام 2022 هو 15.3 مليون، وستكون الكثافة السكانية في هذه الحالة 414 نسمة لكل كيلو متر مربع، أما إذا هاجر إليها سكان الكيان الإسرائيلي فقط فستكون الكثافة السكانية 258 نسمة لكل كيلو متر مربع أي أفضل من زحامهم الحالي على أراضٍ ليست لهم.

هذه البيانات تؤكد أن المقاطعة اليهودية “يفيرسكيا أوبلست” قادرة على استيعاب كل يهود العالم وليس يهود إسرائيل فقط. يقول الروس إن هذه المقاطعة لا يسكنها الآن سوى حاكمها لأن اليهود غادروها متعللين بسوء الأحوال بها؛ فالصهاينة يفضلون العيش في أراضٍ مغتصبة، وقتل أصحابها، ونهب ثرواتها، مادام هناك عالم يقف خلفهم بكل دعمه ويرى أن قصفهم الوحشي للمدنيين لا يجب أن يتوقف، لكن المدنيين هم الذين يجب أن يغادروا بيوتهم وأرضهم إلى أي مكان ليرتاح منهم الاحتلال!

خريطة لموقع المقاطعة اليهودية يفيرسكيا أوبلست

محو القضية معلوماتيًا لتزييف الحقيقة

الغرب؛ ومنه إسرائيل، ليس عقلانيًا، وليس متحضرًا، عندما يكون للأمر مساس بمصالحه؛ لذلك لا نتوقع أن يسعى لتقديم هذا الحل للقضية الفلسطينية، بل سيستمر في دعم آلة الحرب الإسرائيلية الوحشية، فإنجلترا البارعة في زرع مشكلات كبرى ودائمة وصعبة في كل البلاد التي احتلتها ثم غادرتها مضطرة، زرعت الكيان الصهيوني في منطقتنا لتكمل ما بدأته هي من مجازر ضد العرب منذ وعد بلفور عام 1907 وحتى عملية السيوف الحديدية القمعية.

ولا داعي لأن نراهن على الغرب، ولا على الشرق، بل الرهان علينا أنفسنا، أن نعمل بقوة وإخلاص على أن يكون لنا صوت مؤثر وليس فقط مسموعًا، يخشاه العالم الذي لا يستجيب سوى للأقوى ولمن معه “المصلحة”، وأن نعرف أكثر، فهم ينحازون إعلاميًا، ويخفون المعلومات، ليمحوا القضية معلوماتيًا ويستبدلوا السردية الحقيقية بسرديتهم المكذوبة لتكون هي التاريخ المقرر المعترف به، لكننا نستطيع أن نصل إليها إن أردنا وبسهولة في عصر مهما يكن فيه الحجب متاحًا فالوصول ليس مستحيلًا.

علم المقاطعة
شعار المقاطعة

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

8 تعليقات

  1. احمد البدري

    أحسنت أستاذنا الفاضل وبارك الله في أمثالكم ويا ليت الجميع يبحثون ويدققون وينشرون حنى يعلم الجميع الحقائق

  2. أحمد كاعودي

    مقال متكامل،في تنفيذ الكاتب ادعاء الكيان الأسرائيلي أن فلسطين هي” وطنه “في حين يراى الكاتب ان الاتحاد السوفياتي خصص مقاطعة “يفيريسكا”لتجميع اليهود ،فضاء رفضه قادة الصهيونية والرأسمالية العالمية كما رفضوا أستراليا والغابون ولكن علاقة الرأسمالية والصهيونية أبت إلا أن تزرع في فلسطين هذا الكيان الإجرامي والعنصري لضمان مصالحه في الشرق الأوسط وخاصة البترول والغاز والممرات البحرية ،لهذا لتحرير فلسطين هو مواجهة التحالف الإمبريالي والصهيوني والرجعي الداعم لهذا الكيان.

  3. محمود عبد الصمد زكريا : شاعر وناقد أدبي

    الله الله يا صديقي الأديب الكبير والنجم المتألق دائماً .. أحييك وأشد على يديك بحرارة .

  4. محمد الحداد

    بحثتَ فكشفتَ لنا عن جانب آخر من مسلسلات حقدهم وإصرارهم على اغتصاب حقوق الآخرين وإبادة أهل الأرض الطيبة الأصليين دون وازع غير الإصرار على الضلال ونشر الحروب والأحقاد.
    أبدعت في عرض القضية كعادتك.
    بارك الله فيك أستاذ منير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *