أحدث الحكايا

د. شوكت المصري يحكي: حكاية الأدب الذي على العلم فضلوه

في كلِّ لغةٍ يستخدمها بشر.. كُلُّ لغةٍ وكلُّ بشر توجد ما تُسمى بالظواهر اللغوية.  الكلامُ ليسَ معقدًا ولا متخصصًا كما ستظن.. فالظاهرة هي أي حدث عادي أو غير عادي تمكن ملاحظته ومراقبته ورصده. البراكين، والزلازل، والشروق، والغروب، وحتى أطفال الشوارع، كل هذه ظواهر بعضها طبيعي وبعضها الآخر مصطَنع.. المهم أن جميعها ظواهر. 

ظواهر لغوية

وفي اللغات البشرية توجد ظواهر أيضًا، فالترادف (الكلمات الدالة على المعنى نفسه)، والتضاد (الكلمات الدالة على معنيين متضادين)، والاشتقاق (الأصل الرئيسي للكلمات)، والأضداد (الكلمة الواحدة التي تدل على معنى في سياق وعلى معنى نقيض له في سياق آخر)، كلُّ هذه ظواهر لغوية نلحظها بل ونستخدمها دون حتى أن نعرف المصطلحات الدالة عليها بشكل علمي. 

كان لدينا أستاذ جليل يدرس لنا فقه اللغة في كلية الآداب في تسعينيات القرن الماضي.. وحينما حدَّثنا عن “الأضداد” في اللغة العربية؛ لم نفهم كيف يمكن أن تدل كلمة “سليم” على المعافى والسقيم في آنٍ واحد.. ساقَ لنا أستاذنا من أشعار العرب وكلامهم ما يدلُّ على استخدام العرب لكلمة “سليم” بمعنى “مريض أو معتل”، ومنها حديث أخرجه البخاري يقالُ في متنه: “فأبوا أن يكرمونا فلُدِغَ سيدُّهُم، فجاءوا إلينا فقالوا: إن سيِّدَ هذا الوادي سليم”.

ورغم ما ساقَهُ أستاذنا من شواهد؛ فإننا لم نستَسِغْ المعنى، فما كان منه إلا أن سكَتَ للحظاتٍ ثم قال: “أبو فاطمة كان عيان وقعد 3 أيام ما يروحش الغيط.. طِلعِت فاطمة ناحية الغيط بتاعهم تبص على الزرع، قابلها عم محمود جارهم، سلّم عليها وسألها (أومال أبوكِ فين يا فاطمة مش باين بقى له يومين؟!) ردت عليه فاطمة وقالت له (والله يا عم محمود أبويا بـ (عافية) شوية”.. وهنا صفقنا جميعا وضجت قاعة الدرس بالهمهمات والضحك بعد أن فهمنا أن الـ(عافية) من أضداد العامية المصرية تمامًا ككلمة (سليم) في العربية الفصيحة. 

يعني إيه كلمة أدب؟

يا الله.. لماذا كلُّ هذه المقدمة المشتَّتَة المشتِّتَة؟! كنت أنوي فقط أن أحدثكم عن كلمة “أدب” وعلاقتها بظاهرتَي “المشترك اللفظي”، و”التطور الدلالي”.. وكنت أنتوي عنونة المقال بعنوان عامِّي “يعني إيه كلمة أدب”، لكنني تراجعت خشيةَ انتقاد بعض المتطرفين لاستخدام العامية في الكتابة (ولنا مع هذا مستقبلا وقفةٌ أخرى طويلة).. فهل تعرف يا عزيزي أن كلمة “أدب” في أصلها لم تكن تعني النصوص الإبداعية من شعرٍ ونثرٍ وقصةٍ وروايةٍ.. إلخ؟! 

نعم.. كلمة أدب في أصلها اللغوي، وفي استخدامها عند العرب المتقدمين (هكذا يصفون العرب القدامى.. بينما نحن نُسمى بالعرب المتأخرين (وهذا وصفٌ زمني لا قِيَمِي) كانت تعني تقديم الطعام.. فالأُدْب (بتسكين الدال) هو تقديمُ الطعام للضيوف، ومقدِّمُ الطعام هو “الآدِب”.. ومن ذلكَ تسميةُ ما يقدّم بـ “المأدُبَة”.. ومنه قولُ “طرفة بن العبد”: 

نحنُ في المشتاةِ ندعو الجَفَلى   ..    لا ترى الآدِبَ فينا ينتقر

فالأُدْب (بتسكين الدال) هو تقديمُ الطعام للضيوف، ومقدِّمُ الطعام هو “الآدِب”.. ومن ذلكَ تسميةُ ما يقدّم بـ “المأدُبَة”

ومعنى بيت طرفة أنهم في ليالي الشتاء الباردة يدعون الجفلى (أي عموم الناس) للطعام كرمًا، ولا ينتقي الآدبُ من يدعوه بل يعمم دعوته للأغنياء والفقراء على السواء.. رحَل الأدب بمعنى تقديم الطعام، وانتهى الآدبُ ومات استخدام الكلمة منذ مئات السنين، وبقيت المأدبة ككلمة بل وظل طعامها ساخنا إلى وقتها هذا.

تطوَّرَ مفهوم كلمة “أدب” لتأخذَ معنى الأخلاق والمكارم، وذلك في نهايات العصر الجاهلي وبدايات ما سُميَ بصدرِ الإسلام.

ثم تطوَّرَ مفهوم كلمة “أدب” لتأخذَ معنى الأخلاق والمكارم، (نعم هي ظاهرة التطور اللغوي التي حدثتكم عنها سالفًا)، وذلك في نهايات العصر الجاهلي وبدايات ما سُميَ بصدرِ الإسلام.. ومن ذلك حديثُ رسولنا الكريم (ص): “أدَّبني ربي فأحسنَ تأديبي”.. وهو معنى يضيفُ إلى المعنى الظاهر حيث التعليم والتزيين بالأخلاق معنى باطنًا وهو الإكرام أيضًا كـ (مشترك لغوي). 

آه.. نسيتُ أن أقول لكم في الفقرة السابقة أن “الجاهلية” لا تعني “الجهل: بمعنى عدم العلم”، فكلمة “الجاهلية” مشترك لغوي أيضًا.. (أعرفُ أن أحدكم يقول الآنَ في نفسه “يادي النيلة”).. فللجاهلية معنىً آخر وهو العصبيّة والحميَّة والاندفاع في مواجهة الأعداء والصعاب.. ولك أن تتخيَّل يا عزيزي أن شاعرًا يفخر بقبيلته ومكانتها فيقول: 

ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا     ..     فنجهَلُ فوقَ جهلِ الجاهلينا

وهو يقصدُ بذلك أن من أراد أن يعلو علينا في انعدام العِلمِ والمعرفة فإننا أعلى منه وأكثر انعدامًا وجهلا؟!

هل فكرتَ في الأمر؟! أظنك فعلت.. فالجاهلية التي يقصد إليها “عمرو بن كلثوم” هي العصبيّةُ والحميّة والإقدام في المواجهات دون حساب للنتائج مهما كانت.. ومنها نقدُ “عنترة” لـ “حِدَّةِ وعصبية” حبيبته “عبلة”، وطلبِهِ أن تترَّيث قبل أن تغضَبَ منه مستوثقةً من شجاعته حيث يقول: 

هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنَةَ مالكٍ    ..     إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي

للجاهلية معنىً آخر وهو العصبيّة والحميَّة والاندفاع في مواجهة الأعداء والصعاب.

الأدب والتأديب

وعودًا على بدءٍ هو مفهوم كلمة “الأدب”، فإن الكلمة تطورت مرةً ثالثة لتعني “الآداب العامة والمعارف” في العصر الأموي، أي في منتصف القرن السابع الميلادي تقريبًا، حيثُ بدأ الخلفاء والأمراء والأغنياء في الدفعِ بأبنائهم للمؤدبين (أي المعلمين)، يعلمونهم فنون الكتابة وآداب الجلوس والحديث والطعام والسلوكيات العامة. هذا الأمرُ الذي استمر حتى العصر العباسي، وتفنن فيه السلاطين والخلفاء إلى درجة اختيار أعلام الثقافة واللغة آنذاك لتعليم الأمراء والأبناء، حيث استخدم الخليفة “المهدي (744 – 785)” الكسائي لتعليم ابنه “هارون الرشيد”. ومن نوادر هذا الأمر أن الخليفة “المتوكّل (847 – 861)” حين أراد استخدامَ مؤدبٍ لأبنائه تقدّمَ له عددٌ من العلماء الأكابر وكان من بينهم “الجاحظ”، لكن المتوكِّل استبشَع ملامِحَه (سُميَ الجاحظ بذلك لجحوظِ عينيه) فرفضَ تكليفه بالمهمة ودفع له بعشرةِ دراهمٍ ثم صرَفَه.

ظهور الأدب

غلاف كتاب "أدب الكاتب"
غلاف كتاب “أدب الكاتب”

وبالتوازي مع هذا المفهوم لـ “الأدب” ظهر في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، كتاب عنوَنَهُ مؤلِّفه بـ “أدب الكاتب”، إنه كتاب أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوريّ (213 هـ – 276 هـ) (828 م – 889 م)، وفي هذا الكتاب تحدّث ابن قٌتيبَة عن أصول الكتابة وقواعدها الضرورية، وقسّمَ كتابه إلى أربعة أقسام هي: “كتاب المعرفة، وكتاب تقويم اليد، وكتاب تقويم اللسان، وكتاب معاني أبنية الأفعال”، وكان هدف ابن قتيبة من تأليفه لمصنَّفِهِ هذا تزويد من يرغب في احتراف حرفة الأدب بالثقافة العامة والأدوات التي يستعين بها على حرفته، وهو يقول في مقدمة كتابه منتقدًا جمهور القرّاء والكتّاب الجُدد في زمانه: “فإني رأيتُ أكثرَ أهلِ زماننا هذا عن سبيل الأدبِ ناكبين [أي متراجعين]، ومن اسمه متطيرين [أي خائفين متشائمين]، ولأهله كارهين، أما الناشئ منهم فراغبٌ عن التعليم [أي رافض]، والشادي تاركٌ للازدياد [الشادي هنا أي الموهوب المتمكن]، والمتأدِّبُ في عنفوانِ الشباب ناسٍ أو متناسٍ”.

تبقى اللغة قادرةً على إبهارنا بظواهرها وتحولاتها، ويبقى الأدب قادرًا على أن يكونَ عِلمًا نفضِّلُهُ أحيانًا –كما فعل أسلافُنا- على أي علمٍ سواه

أقدم نسخة لأدب الكاتب لابن قتيبة، مكتوبة سنة 396 هجرية

 

وهكذا.. ومنذ أن أسس “أدب الكاتب” إلى تعبير اللفظة عن النصوص التي تنتمي إلى الفنون اللغوية، ونحن ما نزال نستخدم الكلمة بمعناها الأشهر هذا، وبجوارها نَصِفُ منقوص التربية والخلق في عامياتنا العربية بـ “قليل الأدب”، ليظل المعنى الأخلاقي مجاورًا للمعنى الفني وإن اختلفت زوايا الرؤية والسياقات. 

لكن ظاهرة التطور الدلالي لم تترك الأدب على حاله حتى وقتنا هذا، فقد انزوت كلمة “أديب” من استخداماتنا ومقالاتنا على عكس ما كان في العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين، وبدأنا نفضّل عليها كلمة المثقفِ والكاتب والشاعر والروائي وغيرها في وصف الأدباء بحسب النوع الأدبي الذي يكتبون فيه.. لتبقى اللغة قادرةً على إبهارنا بظواهرها وتحولاتها، ويبقى الأدب قادرًا على أن يكونَ عِلمًا نفضِّلُهُ أحيانًا –كما فعل أسلافُنا- على أي علمٍ سواه.

عن شوكت المصري

شاعر وناقد أكاديمي، أستاذ مساعد النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون بالقاهرة ورئيس قسم النقد الأدبي بالمعهد العالي للنقد الفني بالإسكندرية، المدير التنفيذي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب من ٢٠١٩ إلى ٢٠٢٢.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *