أحدث الحكايا

أسماء إبراهيم تحكي عن ماسبيرو (1): المبنى الذي كان

أعمل في التليفزيون الوطني منذ ما يقرب من الربع قرن.. أدخل مُـدتي تلك وأنا أتذكر وصفنا له كعاملين به. لم نكن لنقول ذاهبين للعمل، أو للشُـغـل، أو للاتحاد (ومن بعده للهيئة)، أو حتى مــاسبيرو. كنا نقول دائما: “رايحيين الــمــبـنـى”!.

لا نعلم لماذا اعتمدنا هذه التسمية دون غيرها -رغم ملائمة أقرانها- ولماذا انتخب وجداننا كلمة “المبنى” تحديدا ولماذا تم التكريس لها؟

مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ماسبيرو، القاهرة

 

المبنى

تحضر الكتلة المعمارية لمبنى ماسبيرو على كورنيش النيل كِـثـقـل بصري، أشبه بهضبة عريضة رغم أن تشكيله بطوابقه المتسعة العشر الأولى، ثم بـرجـه بطوابقه السبعة عشر تجعله أميل لتصوّره كــجبلٍ يبرز باستطالته واستدقاقه.

يقال إن تصميمه المعماري مستلهم من تصميم التليفزيون الفرنسي. والحق أنه رغم التشابه الظاهري بينهما، ورغم أن المهندس جلال مؤمن الذي تم اعتماد تصميمه المعماري للمبنى قد درس بفرنسا، ورغم أن أحـد أساتذته وهو مسيو “سـال” كان قـد عمل لصالح التليفزيون الفرنسي؛ إلا أن ذلك التشابه له بواعـثه الوظيفية وذلك لاستهداف تصميم الاستوديوهات التليفزيونية عـادةً على هيئة نصف دائرة لامتصاص الصوت وتقليل صداه وتحجيم ارتداده.

مبنى ماسبيرو في الأعلى ومبنى راديو فرنسا في الأسفل

 

فقد كانت التحديات الهندسية للمصمم هي خلق مساحات مسطحة لاستوديوهات مرتبطة بالخدمات وتصميمها بشكل يتجنب المشاكل الفنية وبالأخص ترديد الصوت؛ وكذلك توجيه ضلعي الاستوديو إلى مركز الدائرة مما يساعد على امتصاص التردد الصوتي. وهو الحل الهندسي المُتَّـبع الذي سيلجأ إليه من يُصمم استوديو. لــذا جاء الشكل نصف الدائري كضرورة حتمية للتصميم، وهو في نفس الوقت الملمح المشترك بين تصميم مبنيي التليفزيونين الفرنسي والمصري.

مصري بترشيح فرنسي

في كتاب “عاشق العمارة” لمؤلفه الإعلامي فــارس سـعـد يتذكر المهندس د. جلال مؤمن حكاية تصميمه لمبنى ماسبيرو؛ فعندما ذهب صلاح عامر وكيل الإذاعة المصرية إلى باريس لكي يتعاقد مع خبير فرنسي على إنشاء مبنى للإذاعة والتليفزيون بمصر، نصحه مسيو “سـال” الخبير بمبنى التليفزيون الفرنسي -والذي قام بتنفيذ مشروع التليفـزيون الجزائري- بأن يختار مكتبا هندسيا لأحد أعضاء البعثات المصريين لتنفيذ المشروع لأنهم يعرفون الفرنسية، ويسهل التعامل معهم، فذهب صـلاح عـامـر إلى السفارة المصرية بباريس ليحصل على كشف بأسماء المُبتعثين المصريين، وجاء به لمسيو “سال” الذي اقترح عليه اسم المهندس جلال مؤمن الذي كان يدرس حينئذٍ في البوزار أو مدرسة الفنون الجميلة العليا بباريس.

وبعودة المهندس المصري لكلية الفنون الجميلة بعد بعثته؛ وجد في يومه الأول بالكلية خطابا من هيئة الإذاعة والتليفزيون بإمضاء صـلاح عـامـر يبلغه باختياره ضمن مصممين آخـرين في مسابقة لتصميم المبنى. وحين قابله صلاح عامر أخبره بأن المسابقة تشترك بها مكاتب أجنبية ومصرية، وأمّـده بخريطة الأرض، فقام جلال مؤمن بتصميم المبنى واجتاز تصميمه المنافسة واختير مشروعه لكي يتم العمل فيه وبدأت حياته العملية بهذا المشروع الضخم ليأتي تصميم ماسبيرو الحالي.

يحكي د. مـؤمـن : “الطريف أن صلاح عامر انتدبني من كلية الفنون الجميلة براتب 32 جنيها، وتوسَّـط لدى مجلس الوزراء للنظر في هذا المرتب الضئيل، فتقرر رفعه إلى 58 جنيها شهريا.” وتعاقدت الدولة مع د. م. جلال مؤمن الفائز بمسابقة أحسن تصميم لمبنى الإذاعة والتليفزيون عام 1056.

واستمر المشروع لمدة 6 سنوات رسم مؤمن خلالها 3000 لوحة، وقدم تصوره المعتمد على قطرية المروحة التي تم استكمالها لتصبح نصف دائرة، وتم وضع التوسعة المستقبلية في الاعتبار فكان تصميم مباني “س” و”ص” كامتدادات للمبنى، وتصميم جراج بالبدروم، ومهبط لطائرات الهليوكوبتر لكبار الشخصيات. كتصميمات راعت التوسعة والتطوير المستقبليين للتليفزيون الوطني.

مخطط مثلث ماسبيرو بعد التطوير

 

واليوم.. يحيط  “المبنى” سيل من المباني المتطاولة، تحجبه عن الرؤية، تغمره أو تبتلعه. ينافس المبنى العملاق جبالا عمرانية، تمتد من شارع الجلاء وحتى كورنيش النيل محاصرة إياه دون أن تنسى نسبة المشروع الحضري إليه لتعرف لتُـعرف باسم أبـراج ماسـبـيـرو.

عن أسماء إبراهيم

مخرجة وكاتبة سيناريو وباحثة سينمائية. أنجزت أفلاما تسجيلية للتليفزيون المصري ونال بعضها الجوائز. كما قامت بالإنتاج المستقل لفيلمها الأحدث الذي شارك في عدة مهرجانات دولية. مُـحاضِرة ومُـدرِّبة في معاهد وكليات الإعلام. وحاصلة على درجة الماجستير في النقد التلفزيوني من أكاديمية الفنون. لديها اهتمام بالتراث والعمارة ونشرت بالعديد من الجرائد والمواقع الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *